الأربعاء، 19 سبتمبر 2018

من بغداد إلى القاهرة: ما لديّ من الكلمات لا معنى له أمام شارع محطم!




لم يكن وجود السينمائي العراقي حيدر الحلو في أخر أيام المدينة من تأليف و إخراج تامر السعيد سنة 2016 محض مصادفة. في 2003 انضم الحلو إلى فريق عمل فيلم غير صالح تأليف و إخراج عدي رشيد و هو حسب تسلسل الوقائع و تصنيفات النقاد أول فيلم عراقي يتم إنجازه بعد سقوط بغداد. في ذلك الوقت، حمل عدي رشيد و مدير التصوير زياد تركي و الممثل حيدر الحلو الكاميرا بعد عثورهم  في السوق السوداء على علب خام كوداك 35 مليمتر يُعتّقد أنها هُرِبَت من بين أنقاض مؤسسة السينما العراقية و شرعوا في تصوير الفيلم. لم يكن الخام صالحاً للاستخدام فالشركة كانت قد أوقفت إنتاجه و استخدامه منذ سنة 1983 و هنا وُلِدَ اسم الفيلم. بدأ التصوير دون وجود سيناريو أو حبكة فقد كان صنّاعه، الناجون، مأخوذين بضرورة توثيق اللحظة و تسجيل ما يشبه يوميات مدينة خرجت لتوّها من أتون الحرب و الحصار. خلق عدي رشيد شخصية حسن، و هي بلا شكّ معادل تام لشخصية مخرج الفيلم ذاته، فحسن مخرج سينمائي يعيش في بغداد و يطمح لتصوير فيلم تسجيلي عن مدينته الأثيرة و لكنه محاصر بالعبث و اللاجدوى. ما لديّ من الكلمات لا معنى له أمام شارع محطم؟ عبارة يقولها حسن في بداية الفيلم تكاد تلخص مجمل الهواجس التي تدور في الذهن. مدير التصوير يظهر في الفيلم و يسأل حسن: ماذا سنفعل بالألوان؟ هذا الخام غير صالح!  يجيبه حسن: هل يوجد ألوان في هذه المدينة؟ يصمت زياد بينما يواصل الفيلم رحلته و يصّور شهوداً على الحرب: شاب ينقذ جندياً عراقياً من القصف بينما لا يكفّ والده العجوز عن الاستماع إلى الراديو القديم. معتز، شاب يحلم بالمشي و الركض و لكن إصابته الجسدية الدائمة تمنعه عن ذلك. ميسون، زوجة حسن، ترغب بالعودة للتدريس لكنها تصطدم برفض زوجها خوفاً من الانفلات الأمني. فجأة، و في منتصف الفيلم، يوقف حسن التصوير. لم أعد قادراً على الاستمرار! لا يوجد في رأسي سوى الفراغ! هنا تتلاشى الحدود  بين الحقيقة و الفيلم على النحو الذي حدث في بداية الفيلم حين شاهد حسن ثلاث جنائز تعبر الزقاق دون أن يعرف ما إن كان قد شاهد الجنائز حقاً؟ أم أنه توهم ذلك؟ يتأمل حسن بغداد من شرفة غرفته المليئة بالكتب و علب الخام. يسير في الشوارع  جوار الأسلاك الشائكة و المدرعات الأمريكية أما زوجته ميسون، ملاذه الآمن و الأكثر سكوناً في خضم الصخب و القصف المتقطع، فيبدو حبّه لها أضعف من همومه كما يأتي على لسانها داخل الفيلم. نحن أبناء بغداد! إن لم نحافظ عليها بأنفسنا فمن سيحافظ عليها؟ تقول له بينما تحاول إقناعه بضرورة عودتها إلى التدريس و تحدي الظروف الأمنية. يعود حسن في النهاية إلى أنقاض مؤسسة السينما العراقية ليبحث بين الحطام و البقايا عن فيلمه الذي احترق خلال القصف الأمريكي قبل أن يكتشف أن الفيلم قد تحول إلى رماد و في هذه اللحظة تزول الحواجز من جديد بين الواقع و الخيال و بين التسجيلي و الروائي فعدي رشيد نفسه فقد فيلمه الأول نبض المدينة الذي صوره عام 2002 في هذا القصف و لم يعد قادراً على استرجاعه أبداً. يجلس حسن على حافة نافذة و يتحدث إلى الكاميرا و فريق عمل الفيلم من خلفها: أكرهكم! أنتم سبب كل ما حدث! هكذا، يختزل حسن ما يدور في وجدان العراقيين العائدين إلى العالم و الحياة بأعين مترقبة تتأمل الجحيم الذي عبر بهم. احتراق فيلم هو احتراق بلد بأكلمه! تمّت عمليات ما بعد الإنتاج في بيروت و ألمانيا بعد حصول الفيلم على منحة من مهرجان روتردام و دعم من شركة آري و كوداك و بدأت عروضه سنة 2005 بعد مرور سنتين على تصويره.
في 2009 بدأ تامر السعيد في القاهرة تصوير فيلمه أخر أيام المدينة و ينتمي تامر، و هو خريج معهد السينما 1998 إلى جماعة السينما المستقلة في مصر. عمل مع ابراهيم بطوط، أحد رواد هذه السينما، و بدأ بتصوير فيلمه مستلهماً تجربة عدي رشيد و رفاقه العراقيين في فيلمهم الأول بعد الحرب دون أن يصرّح بذلك أو يشير إليه بوضوح. يخلق تامر السعيد شخصية مخرج سينمائي، اسمه خالد، يعيش في القاهرة المحتقنة، كحال العواصم العربية في نهاية العقد الأول من القرن الحالي،  يحاول تصوير فيلماً تسجيلياً يجمع عدة شخصيات، لكنه في الآن نفسه يعيش صراعاً وجودياً من نوع آخر، هو صراعه مع المدينة التي تغلي: مظاهرات ضد الحرب الإسرائيلية على غزة. أخبار انفجارات و عمليات إرهابية في بغداد و بيروت. محاولات دائمة للبحث عن منزل للإيجار سرعان ما تبوء بالفشل. لقاءات مستمرة مع رفاقه السينمائيين: اللبناني باسم فياض و العراقي حيدر الحلو و اللذان قدما إلى القاهرة برفقة فيلمهما المشارك في مهرجانها السينمائي و لكل من هذين السينمائيين في السينما العربية المعاصرة حكاية: باسم فياض هو أحد أبرز مخرجي السينما التسجيلية في لبنان، إلى جانب عمله كمدير تصوير، و سبق و أن أنجز فيلماً تسجيلياً بعنوان بيروت – بغداد، 2003 أما حيدر الحلو فهو ممثل في غير صالح و سينمائي يعمل على مشروعه الأول، فراشة أمي، الذي لم يرَ النور بعد. تعامل تامر السعيد، أو خالد في الفيلم، مع مخرجين تمرسوا في رصد العلاقة بين السينمائي و المدينة و إن كانت علاقاتهم بمدنهم قد وصلت فيما يتضح من نقاشاتهم و مونولوجاتهم إلى طريق مسدود فباسم لن يصور بيروت كما طلب منه خالد لأنه غير قادر على رؤية الزيف الذي يعتريها و لهذا يكتفي بتصوير البحر عبر الكورنيش الطويل أما حيدر فيصور ملامحاً مشوهة من بغداد التي يحجب سماءها دخان الانفجارات و تستلقي على نهرها أشعة الشمس الكالحة ساعة الغروب.
 في مقهى الحرية بباب اللوق و على سطوح إحدى العمارات المطلة على ميدان التحرير يجتمع الأصدقاء الثلاثة القادمين من مدن عاشت أو تعيش الحرب بقسوتها و عبثها و جبروتها، أما صديقهم العراقي الرابع فهو مقيم في ألمانيا بصفة لاجئ إنساني يرفض العودة لمدينته التي تنهشها الحرب. نقاشات كثيرة لا تفضِ إلى نتيجة. ما معنى أن تستيقظ من النوم لتلقي بجثة على قارعة الطريق؟ يرصد خالد هذه النقاشات حامية الوطيس و يبدو ظاهرياً أنه غير معني بها، فهو ابن القاهرة البعيدة عن كابوس الاحتلال و شبح القتل و الانفجارات، و لكنه يحاول في العمق تلّمس معنى المدينة فهل هي مدينة حقاً؟ أم محض فكرة؟  بعينيّ عرّافة تفتش عن الكارثة قبل وقوعها يتجول خالد في وسط البلد حاملاً كاميرته ليصّور شوارعها و أناسها بكامل القلق و الغليان و الاضطراب. بعد سنتين ستقوم ثورة يناير و ستصدق نبوءة: أخر أيام المدينة! و هي ليست أخر أيام القاهرة وحدها، بل أخر أيام بغداد و بيروت و كل المدن العربية في لحظات تحول مفصلية غير مسبوقة قبض عليها تامر السعيد على طريقة عدي رشيد من قبله، بحرارة غليانها و سطوع تناقضاتها و وضوح مآلاتها، و الملفت أن أحداً من النقّاد الكثيرين اللذين كتبوا عن الفيلم لم يشر إلى ما يجمع بينه و بين غير صالح فالفيلم الأخير سيبدو لكل من شاهده مرجعاً أساسياً و وحيداً لأخر أيام المدينة و ليس وجود حيدر الحلو في كلا الفيلمين، مرّة و هو يضع جسد الجندي العراقي في دجلة لتحمله المياه إلى مدينته، و مرّة و هو يطل على ميدان التحرير و يحكي عن بغداد كمدينة يجثم فوق صدرها الموت كقدر، مجرد تأكيد أو محض اعتراف من تامر السعيد نفسه بتأثره بفيلم العراقيين الأول بعد الحرب، بل هو تواجد يذهب لأبعد من ذلك بكثير ليصير في النهاية قصيدة سينمائيين غرباء في مدن غريبة! 

عمرو علي
2018 / 8 / 28

هناك تعليق واحد:

  1. ▷ The Casino Site review in 2021 - Lucky Club
    The Casino Site review in 2021. Learn about their games, deposit methods and more. Check the site for your needs today. luckyclub Read all this and other

    ردحذف