السبت، 22 سبتمبر 2018

هيثم حقي: التجربة التي صارت مدرسة!


خلال تواجدي في مصر للدراسة دار الحديث أكثر من مرة في أروقة معهد السينما و بين الأساتذة و الطلبة و المتخصصين - خصوصاً في دروس "حرفية الإخراج التلفزيوني" - حول التأثير الذي خلّفه المخرجون السوريون في الدراما التلفزيونية المصرية و الذي اتضح في اتجاهات عدة أهمها الاهتمام بالمضمون و طرح قضايا اجتماعية راهنة و الاعتماد على البطولات الجماعية بدلاً من الارتكاز على نجم واحد للمسلسل إلا أن النقطة التي جرى الحديث عنها باستفاضة هي آلية التصوير بكاميرا واحدة أو ما يعرف "بأسلوب التصوير السينمائي" فقد كانت المسلسلات التلفزيونية في مصر تصور داخل الإستديوهات و بأسلوب الفيديو القديم (3 كاميرات) حتى سنة 2006 تقريباً و لهذا أسبابه الكثيرة. في السنة الأخيرة من الدراسة طُلب منا كطلاب في مادة "مناهج البحث" إجراء حوارات مع متخصصين في المهن السينمائية المختلفة حول قضايا تهم بحثنا الشخصي و كانت رغبتي بإجراء حوار مطول مع المخرج "هيثم حقي" وليدة إدراكي لأهمية الأثر الذي تركه في الدراما السورية منذ نهاية الثمانينيات عبر انطلاقه إلى خارج الإستديوهات و التصوير بكاميرا واحدة في محاولة لإستخدام اللغة السينمائية في صناعة المسلسل التلفزيوني و لا شك أن هذه التجارب فتحت الباب واسعاً أمام المخرجين السوريين لتقديم اقتراحات بصرية و رؤى مختلفة ضمن المسلسل التلفزيوني و الحقيقة أن معظم هؤلاء المخرجين أسسوا نجاحاتهم التالية اعتماداً على الأساس المتين الذي شيّده "هيثم حقي" و الذي أثبت نجاحه و أهميته مع استمرار التجربة. في أواسط التسعينيات خاض صراعاً مع أنصار الشكلانية في التلفزيون – إن صح التعبير – عبر صفحات مجلة "فنون" و غيرها من الصحف ثم طبع كتابه "بين السينما و التلفزيون" و الذي فند في صفحاته تجربته مع استخدام اللغة السينمائية في التلفزيون و قبل أقل من عشر سنوات أطلق مشروعاً طموحاً لإنتاج أفلام سينمائية حقق بعضها حضوراً في مهرجانات سينمائية و أنعشت الأمل بإحياء السينما السورية من جديد. انتقل إلى "باريس" منذ 2012 حيث ما يزال يقيم إلى اليوم. كان الأساتذة و المشرفون في معهد السينما يعرفون الأستاذ "هيثم حقي" جيداً و يدركون أثره العميق في الصناعة التلفزيونية السورية و الذي انتقل بعد فترة طويلة إلى الدراما المصرية و أظن أننا ندرك جميعاً أنه لولا تلك التجربة و ذلك الأثر لكان على الدراما السورية أن تقطع شوطاً طويلاً قبل أن تتخلص من مفهوم التلفزيون القديم و تنطلق نحو آفاق صنعت لها حضوراً و تأثيراً لا يزال راسخاً حتى الآن.



1 ـ تقول في إحدى الحوارات: "كنت دوماً أسير السينما الشعرية" و اليوم يعتبر الكثير من النقاد و المتابعين الأستاذ هيثم حقي رائداً للواقعية، هل اندفعت إلى الواقعية بسبب التلفزيون و شرطه الفني و الإنتاجي أم أن ذلك الاتجاه كان وليد قناعة و خيار شخصي بتناول المواضيع و القضايا تناولاً واقعياً على صعيد الشكل و المضمون؟

ــ  السينما الشعرية برأيي هي واقعية لكنها تنحو نحو الجمالية والغموض فهي كما تعلم تجمع حالة الشعر مع الصوت والصورة، بما فيهما من مؤثرات تشكيلية وموسيقية وإيقاعية وخلال فترة دراستي في موسكو نهاية الستينات وبداية السبعينات كان للمدرسة الشعرية السوفياتية حضور قوي ولها مشاهير كخوتسييف وأبولادزة وبارادجانوف وبالطبع تاركوفسكي ... ولم يَسلم من التأثر بها أحد من الجيل الشابّ، بالنسبة لي ظهر التأثّر جليّاً في فيلمي للتخرّج "أوتيل تاناتوس" الذي جمع بين شاعرية غامضة ونهاية تسجيلية وحين صنعت فيلميَّ الروائيين الأولين "النار والماء" و "الأرجوحة" كنت أسعى في هذا الإتجاه لكن في الوقت نفسه استعدت الحالة التسجيلية في "مهمّة خاصّة" و "السَّدْ" وفي فيلمي الطويل الأول "ملابسات حادثة عادية" الذي قدّمت فيه روائية تسجيلية، لدرجة أن مشهد العمال في مكان انتظار العمل صُوِّرَ بكاميرا سرّية تم تمويه مكانها قبل يوم لاستحالة التصوير في باب الجابية: وضعت الممثلين بين العُمّالْ ولم يكن أحد يعرفهمْ. كان صدى ذلك جيداً، و حين بدأت العمل في الدراما التلفزيونية اعتمدت الواقعية ْ الخالصة والأقرب إلى التسجيلية: تسجيل الواقع كضرورة فرضتها الرغبة بالحديث عن مشاكلنا بمباشرة تصل إلى جمهور واسع وظهر هذا في مسلسليّ الأولين "الوسيط" و "عزّ الدين القسّامْ"، و لم تعد تؤرقني الحالة الشعريّة إلا عندما قمت في "دائرة النار" الذي أخرجته عام 1988 بالإقتراب أكثر من اللغة السينمائية الراقية التي أصبحت مشروعي وقد أتاح لي نصّ ممدوح عدوان الذي يختلط فيه الشعر بالواقع فرصة تقديم مشاهد سينمائية لها هذا التأثير وهو ما حاولت تمريره في كلّ أعمالي من "هجرة القلوب إلى القلوب" عام 1990 إلى "خان الحرير" عام 1994 و "الثريّا" 1996 و "ذكريات الزمن القادم" 2003 و "الشمس تشرق من جديد" 2006 بل إنني صنعت في 1998 مع خالد خليفة مسلسل "سيرة آل الجلالي" وفيه العديد من المشاهد الشعرية وخاصة مشهد يوم الحبّ في حلب، الذي استقبل كقصيدة، بالنتيجة ... هذا تصنيف نقدي يفصل بين الأشكال الفنيّةْ أما أنا فأعتبر نفسي واقعياً وحين تتاح لي الفرصةْ عبر النصّ، أقدّم بدوري ما أستطيع من  "الشّعر" السينمائي.

2  ـ هل يكفي تصوير ما هو واقعي لنطلق على عمل فني ما صفة عمل واقعي؟ هل يعتبر السير على نهج رواد الواقعية الإيطالية الجديدة و ما صنعوه في أفلامهم مثل زافنتيني روسوليني و دي سيكا و فيسكونتي من تصوير في المواقع الحقيقية و غير ذلك كافياً لنحصل في النهاية على فيلم واقعي أم أن الواقعية تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؟ ما هو مفهوم الواقعية بالنسبة للأستاذ هيثم حقي؟

ــ الواقعية الإيطالية الجديدة والموجة الفرنسية الجديدة وسينما كيروساوا اليابانية وساتجيت راي الهندية كانت كلها مع المدرسة السوفياتية بالنسبة لجيلنا أهمّ منابع التعبير عن الواقع بسينمائية عالية المستوى و من خلال تجربتي الطويلة مع السينما والتلفزيون واللقاءات والمقالات التي كتبتها توصّلت إلى أن أجمل تعبير عن الواقعية هو عنوان كتاب روجيه غارودي الرائع "واقعية بلا ضفاف" الذي يضع فيه بيكاسو وسان بيرس ضمن الواقعيين فالواقعية، بالنسبة لي، هي الإنتقاء الكاشف لما يجري على أرض الواقع من أجل تحليله وطرح الأسئلة المهمة لمحاولة دفع الناس لتغييره. من أجل هذا أركّز على أهميّة الشكل النابع من المضمون  وأعتبر أن تعريف إيزنشتين الموجز: "الشكل مضموني"، عبقري مثل صاحبه، لأن الشكل هو الذي يجعلنا نقرأ المضمون كما يريده المبدع الذي يحرضنا لنكون شركاء معه في عملية الكشف الممتعةْ، أما عن خروج الكاميرا إلى الأماكن الحقيقية والتصوير بكاميرا واحدة واعتماد المدرسة الواقعية في التمثيل فكلها وسائل لتحقيق مستوى أعلى من اللغة السينمائية الراقيةْ.

3 ـ يرى أنصار الفن لأجل المجتمع أن على السينما أن تكون شديدة الصلة بالواقع بمعنى أنها تأخذ من الواقع لتعطيه و بالتالي عليها البحث في الموضوعات المتعلقة بالمشاكل الإجتماعية بينما يذهب البعض إلى التعامل مع السينما على اعتبارها غوص أو بحث في الذات و تقديم قراءات ذاتية أو حتى إعادة بناء العالم وفق صورة تنسجم مع هواجس و أفكار و أهواء السينمائي، أين يقف الأستاذ هيثم حقي من هذين الاتجاهين؟

ــ وهل الغوص في أعماق الذات البشريّةْ إلا غوص أعمق في مشاكل الواقع الحقيقية وانعكاسها على الفرد وبالتالي على المجتمع المكوّن أصلاً من أفراد؟ وحين يكون الفنُّ حقيقيّاً فإنه ينهل من الواقع بإعادة تركيبه لجلاء صورته وإنارة الأماكن المظلمةْ فيه لتغييره و هو بهذا يجعلنا نخوض تجربة حياة الآخر ونتملّكها لتصبح تجربتنا، وحياتنا مع الفنّ هي تجارب كثيرة نجمعها، لم نعشها، لكن الفنّ جعلها لنا، و كلّما كانت التجربة عميقة وصادقة كلّما كانت الإستفادة منها أكبر ... لا أجد تناقضاً بين التعمّق في الذاتْ الإنسانيّةْ والغوص في مشاكل المجتمع لأننا في العمق لا نقيم حواجز إسمنتية بين الإنسان وواقعه.

4 ـ  تعاونت بعد عودتك من موسكو مع دائرة الإنتاج السينمائي في التلفزيون العربي السوري في مشاريع عديدة مثل (النار و الماء) و (الأرجوحة) و (ملابسات حادثة عادية) و قدمت فيلماً روائياً قصيراً – (اللعبة) - من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، لماذا لم تتعاون مع المؤسسة العامة للسينما في مشاريع أخرى أسوة بالعديد من السينمائيين اللذين قدموا كل – أو معظم – أفلامهم من خلال المؤسسة للنجاة من الضغوطات التي قد يتعرضون أو من التنازلات الفنية التي قد يضطرون للإقدام عليها في حال عملوا خارج إطار المؤسسة مع القطاع الخاص الذي كان حاضراً آنذاك أو حتى في حال اتجهوا إلى الدراما التلفزيونية بما تفرضه على السينمائي من شكل و مضمون معيّن من الصعب أن يحيد المبدع عنه؟

ــ بعد أن قدّمت فيلمي "اللعبةْ" 1979 مع مؤسسة السينما، فكّرتُ كثيراً إلى أين عليَّ أن أتّجهْ!
كنت قد ذقت طعم النجاح الجماهيري لمسلسل "الوسيط" 1978 وما أثاره من لغط ونقاش وصل إلى الصفحات الأولى من الصحف السورية و بسبب منع فيلمي "ملابسات حادثة عاديّة" لثلاث سنواتْ وبسبب التضييق على الإنتاج السينمائي في التلفزيون لم يعد أمامي في ذلك الوقت سوى التفكير في العمل مع مؤسسة السينما وكان فيها 26 سينمائياً ينتظر كل منهم فرصة إنتاج الفيلم الوحيد في العام، هو نتاج المؤسسة من الأفلام سنوياً، و بالطبع كانت فرصتي أكبر بسبب عدد الأفلام التي أخرجتها لكنني لم أرض الدخول في هذه المنافسة لأنتزع فرصة من كان ينتظر سنوات ليحصل على فرصته، كما أني لا أستطيع الانتظار دون عمل، في هذه الفترة حصلت على نصّ تلفزيوني متميّز لـ "أحمد دحبور" عن المناضل السوري الكبير "عز الدين القسّام" فكتبتُ معه السيناريو والحوار بإشراف درامي "لحسن عويتي"، كان العمل يحتوي على أربع ساعات من أصل 15 من التصوير الخارجي وفي أماكن صعبة: ميناء أسواق معارك جبلية مظاهرات ... إلخ . في ذلك الوقت لم يكن أحد عندنا قد تجرأ على استعمال الكاميرا المحمولة والتصوير لقطة لقطةْ وفي الأماكن الحقيقيةْ، فقد كانت هذه الكاميرا قد دخلت حديثاً واستعملت للأخبار فقط، و حين طلبت من التلفزيون إعطائي إياها للتصوير الخارجي لمشاهد المسلسل اعترض المهندس المسؤول وأكّد لي استحالة ذلك لكنني كنت قد جربت التصوير فيها في مسلسل "حياتنا" الذي صورته في دبي وعجمان فأصريت على التصوير بواسطتها وقد استجاب التلفزيون بعد تدخّل دائرة الثقافة في منظمة التحرير المنتجة للعمل مع تلفزيون قطر و كانت النتيجة أنني اتخذت قراراً بأن أرجع خطوة إلى الوراء في مجال السينما من أجل خطوتين إلى الأمام في مجال التلفزيون، أي أن أتراجع في مستوى اللغة السينمائية في أعمالي بسبب طريقة الإنتاج والتضييق الرقابي والمجتمعي في التلفزيون لأحقّق نقلة إلى الأمام في لغة الدراما التلفزيونية الأقرب إلى المسرحية وقتها و ذلك باستخدام اللغة السينمائية الراقية في التلفزيون حيث أنني أعتبر أن الدراما التلفزيونية والفيلم السينمائي يصنعان بها و قد فصّلت ذلك في كتابي "بين السينما والتلفزيون" و أعتقد أن مشروعي نجح فكلّ الأعمال السوريّة حتى التجاريّة منها تصنع بلغة سينمائية متقدمة اليوم.

5 ـ رغم الغموض الذي يكتنف تجربة القطاع الخاص في السينما السورية يعتبرها البعض تجربة فريدة و ملفتة بينما يعتبرها البعض الأخر مجرد لهاث وراء الإيرادات، ألم يكن ممكناً السمو – إن صح التعبير – بتلك الإنتاجات لتقديم ما هو أكثر أهمية فيما لو أخذنا بعين الاعتبار بعض الأفلام التي حاولت مقاربة مواضيع إجتماعية ملّحة و جدّية مثل (أموت مرتين و أحبك) و (غابة الذئاب)؟ لماذا لم تفكر في العمل مع القطاع الخاص؟

ــ القطّاعْ الخاصّ كان يعتبرني عدواً وصديقاً في الوقت ذاته: عدواً بسبب نقدي لأفلامه والسّخرية منها ومن مستواها الهابطْ، و صديقاً بسبب دفاعي عن تحرّر أفلامه من قيود رقابية عربية صارمة وبسبب قناعتي أن هذه صناعة فيها التجاري، الغالب بالطبع، لكن يمكن أن تكون قاعدة تقنية وإنتاجية لأفلام تستفيد من هذا المناخ الإيجابي رقابياً، لكن الدولة تنبهتْ إلى هذا الجانب، فعمل مقصّ الرقيب على إنهاء سينما القطاع الخاص ولم يبقَ سوى سينما تجاريّةْ قليلةْ مثل أفلام النجم الكوميدي دريد لحام: فيلم كل ثلاث أو أربع سنوات، واختفى العري الجاذب للجمهور تماماً من الأفلام في سياسة ممنهجة من قبل وزارة الثقافة تحت شعار محاربة الابتذال، و في هذه الأثناء دخل النظام في صراع مع التنظيم المُسلّح للإخوان المسلمين واعتبرها فرصة جاءته على طبق من ذهب فقرّرَ أن يُكمّمَ الأفواه بحجة ما يتعرّض له من "هجمة شرسة" و بالطبع وفي ظرف كهذا ووسط شبه تهديد أمني بسبب انتمائي - غير الحزبي لكن الفكري لليسار – و موقفي المعارض الواضح، كان عليّ أن أختار، فوجدت أن تفادي المواجهة والذهاب للعمل خارج سوريا أفضل لإبقاء الصوت مسموعاً.

6 ـ قدمت مع العديد من السينمائيين عبر المؤتمر التحضيري للسينمائيين السوريين جملة من الاقتراحات و التوصيات التي كان يكفل تحقيقها تجاوزاً للعديد من المشكلات التي عانت منها السينما السورية، هل تعتقد أن الجهات الرسمية القادرة على تنفيذ تلك التوصيات كان تعرقل ذلك خشية قيام صناعة سينمائية حقيقية أم أنه ثمّة أسباب أخرى؟

ــ بالظبط ... كما ذكرت في سؤالك: فهم كانوا ظاهراً يتحدثون في الثقافة وتطوير السينما و واقعاً كانوا لا يطيقون المثقفين، المسرحيين والسينمائيين على وجه الخصوص، بسبب معارضتهم للنظام بكلّ الأشكالْ فبعد المؤتمر تشكلت لجنة كنت فيها أنا والراحل عمر أميرالاي عن السينمائيين من خارج المؤسسة، و المخرج الراحل خالد حمادة عن مؤسسة السينما، ونقيب الفنانين ومدير عام مؤسسة السينما، و كان مشروع المجلس الوطني للسينما والصندوق الوطني لتمويل الأفلام في القطاع الخاص مطروحاً من قبلنا وبتأييد ومساهمة من خالد حمادة: المماطلة وعدم الدعوة لاجتماعاتْ ثمّ بسبب "ظروف البلد!" توقّف حينها حتى النقاش في الموضوع ولم يعد مطروحاً حتى نهاية التسعينات وبداية القرن الحالي مع ربيع دمشق حيث قمنا، عمر أميرالاي وأسامة محمد وأنا، بإحياء الموضوع لكننا لم نحصل إلا على وعود كاذبةْ.

7 ـ  أنتجت مسلسل (دائرة النار) الذي يعتبر أول مسلسل سوري يصور بكاميرا واحدة، هل كان ذلك بسبب تخوف التلفزيون السوري من المغامرة في إنتاج مسلسل يعتمد على تلك الطريقة في التصوير و تفضيله التريث لمتابعة نتائج تلك التجربة قبل أن يقدم على تبنيها؟

ــ لم يكن التلفزيون في وارد الإنتاج أصلاً: كان يغيّر الآستوديوهات للملوَّنْ ومضى زمن على إنتاجه الشحيح أصلاً و بسبب عودتي من الخارج مع مسلسل الكاتب والمنتج الراحل داوود شيخاني "حرب السنوات الأربع" 1985 الذي أظهر إسمي كمخرج للأعمال الضّخمةْ ذات الشكل الأقرب للسينما فقد عرض عليَّ المهندس فيصل مرعي (و هو منتج شاب كان يعمل في التلفزيون وله حظوة لدى الإدارة) إخراج مسلسل "غضب الصحراء" عام 1986 لحسابه و قد أغواني الموضوع لتقديم حكاية بقالب جمالي و حتى تلك اللحظة لم يكن مسموحاً أو ممنوعاً الإنتاج الخاص في مجال التلفزيون لكنه كان عرفاً غير مرغوب فيه لمكانة التلفزيون كإعلام نظام وحتى مسلسلات دريد لحام وداوود شيخاني وعلاء الدين كوكش المنتجة خارج التلفزيون الرسمي كانت تصوّر في بيروت ودبي وأثينا و هنا تعاون التلفزيون بتأجير المعدات التي لم يكن في ذلك الوقت أحد غيره يملك مثلها و جاءت إدارة متحمسة للإنتاج الخاص وعقدت اجتماعات لدعم هذا الإنتاج وحتى الإنتاج المشترك كما حصل مع مسلسلي "هجرة القلوب إلى القلوب" عام 1990 والذي كتبه الراحل عبد النبي حجازي والذي تبوأ بعدها منصب مدير عام الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وتحمس وساعد كثيراً في دعم إنتاج القطاع الخاص و قد حرَّضني نجاح "غضب الصحراء" الذي صوّرت أغلب مشاهده خارج الأستوديو على أن أبحث عن عمل معاصر أستطيع تصويره بالكامل في أماكن حقيقية وبكاميرا واحدة  و حصلت على نصّ "دائرة النار" للكاتب المعروف هاني السعدي (مؤلف غضب الصحراء) عام 1986 و قام الراحل ممدوح عدوان بإعادة الكتابة وبإشراف درامي للراحل شريف شاكر و بتعاون وثيق معي، ميّز علاقتي مع الراحل ممدوح عدوان الذي جمعتني به صداقةْ ومشاريع كثيرةْ ونقاشاتْ لا تنتهي من أجل إنجاح مشروع إقامة صناعة درامية تلفزيونية سورية، و قد حاولت مع العديد من المنتجين وقتها الحصول على تمويل لإنتاج "دائرة النار" دون فائدة فالكل اعتبر الفكرة جنونية: كيف ستصنع ما يعادل عشرة أفلام في وقت لا يكفي لفيلم ...؟ والكاميرا الواحدة...؟ وفيديو...؟ هذا شيء غير معقول ...!!!! و أخيراً وبمساهمة عدة أصدقاء في التمويل، و كنت بدوري قد بعت بيتي وتحولت إلى منتج، أنا الديموقراطي الإجتماعي اليساري، صرتُ منتجاً وعضواً مؤسساً للجنة صناعة السينما والتلفزيون في غرفة صناعة دمشق...!

8 ـ  يعتبر البعض أن تصوير الدراما التلفزيونية بكاميرا واحدة محاولة لمغازلة السينما في التلفزيون بسبب شح الإنتاج السينمائي و عدم توفر فرص مناسبة لعمل الأفلام، هل كان ذلك هو الدافع الأساسي وراء التصوير بكاميرا واحدة أم أن الأمر يتعدى ذلك إلى أسباب أخرى؟

ــ هذا الموضوع الرئيسي لمقالات وأبحاث وثقت بعضها في كتابي "بين السينما والتلفزيون": القصّة لا تتعلق فقط بعدم وجود إنتاج وصناعة سينمائية حقيقية، فالسينما السورية يمكن أن نعتبرها مجموعة أفلام، بعضها رائع، لكنها في المحصّلةْ ليست صناعةْ، فحين أنتج القطاع الخاصّ عام 1974 خمسة عشر فيلماً، وأنتج القطاع العامّ خمسة أفلام طويلة وعدّة أفلام قصيرة بعضها في دائرة الإنتاج السينمائي في التلفزيون، كنا على عتبة تأسيس صناعة سينمائية سورية تنتج وسطياً عشرين فيلماً في العام، لكن التجربة أحبطت للأسباب التي ذكرتها سابقاً وبقي الإنتاج السينمائي راكداً لا يحرك مياهه سوى فيلم واحد في العام وهو، أي هذا الفيلم، مرّة يصيب فيكون جيداً وتحصل السينما السورية على جوائز تحسب حقاً لصناع الأفلام، و مرة يخيب فيذهب إلى العلب، و تبقى الإدارات المتعاقبة تهتم بالشكليات والحفلات والمهرجانات وتقدم للناس "وهْم الإنجاز" و ومضت السنوات ونحن على هذا الحال، أما الدراما التلفزيونية ورفع سوّيتها اللغوية السينمائية فهو مشروع جاء بالتجربة كما بيّنت حيث كنت أيام الدراسة في موسكو تناقشت مع معلمي ليف كوليشوف الرائد في الفن السينمائي وصاحب (تأثير كوليشوف) الذي هو أساس المونتاج، فقد كان كوليشوف يصرّ على الطلاب بالعمل في الفيلم التلفزيوني، و طبعاً طموحات العديدين كانت سينمائية بحتة، و في النقاش معه قلت له أنني موفد من قبل التلفزيون السوري لدراسة الإخراج، لكنني سينمائي وسأصنع أفلاماً فقط، فقال لي يومها: التلفزيون مهم جداً وفي بلادكم خاصّة حيث لا توجد صناعة سينمائية، اصنع أفلاماً فأنت مؤهل لذلك لكن اهتم أيضاً بالعمل التلفزيوني، لذلك لم أتردد حين عرض عليّ المخرج سمير ذكرى عام 1975 نص فيلم تلفزيوني "قبل الزواج" لأقوم بإخراجه وصوّرت المشاهد الخارجية العديدة بكاميرا سينمائية و فكرت في الموضوع واستنتجت أن الدراما التلفزيونية ومن خلال التجربة، تصنع بلغة سينمائية سواء كانت جيدة أم سيئة، فليس هناك من لغة خاصة بهذه الدراما فكل ما نفعل هو سينما بشروط مختلفة وللتقريب أقول أن أفلام المقاولات هي ذات لغة سينمائية رديئة وفيلم المومياء لغته سينمائية عالية المستوى فوعاء العرض سواء كان التلفزيون أو الشاشة الكبيرة لا يغير من طبيعة اللغة السينمائية للعمل لكنه قد يغير شروط العرض التقنية كضعف ضوء آلة العرض وسوء حال الشاشة والجروح العديدة على النسخة و هذا ما يحدث كثيراً في صالات العرض في بلدنا و القضية ليست عقد نقص سينمائية كما يظنّ البعض بل هي تغيير لقواعد اللعبةْ فحين كان الجميع يعتبر الدراما التلفزيونية مسرحاً مصوراً قلت هذه لغة سينمائية بدائية وهناك العديد من الأفلام الشهيرة في الثلاثينات تشبهُ هذا المسرح المصوّرْ و حين تعتبر أن هذه لغة سينمائية بدائية فأنت تسعى إلى رفع سويّتها مثلما فعل سينمائيو الخمسينات حين خرجوا بموجاتهم الجديدة فارتفاع سقف الطموح لمستوى العمل الدرامي التلفزيوني بسعيه اللغوي السينمائي أوصلته إلى أعمال لا تزال منذ أكثر من عشرين عاماً تعاد سنويّاً على شاشاتنا، وطموحنا بعد أن وحّد التقدم التقني التجهيزات في السينما والتلفزيون، أن نرى أعمالاً تصل فيها اللغة السينمائية في الدراما التلفزيونية إلى مستويات غير مسبوقة، و أنا أؤمن أن جيل الشباب الذي وصل مع نهاية المعركة يمكن أن يُبدع هذه الأعمال.

9 ـ التلفزيون يدخل إلى كل بيت بمعنى أن المخرج هو من يذهب إلى الجمهور و ليس الجمهور هو من يأتي إلى المخرج و هذا يفرض نسقاً خطابياً معيناً يكفل الوصول إلى أكبر شريحة من المتلقين، كيف يمكن لمخرج مثل الأستاذ هيثم حقي تطويع هذا النسق بما ينسجم مع لغته السينمائية؟

ــ  هذه معضلة موجودة أصلاً في السينما والجملة الشهيرة للمنتجين هي: "الجمهور عايز كده" و مجال التجريب ضيّق في السينما والتلفزيون لكن مع مرور الزمن وتراكم الأعمال والسعي لقول الحقيقة وإيجاد المعادل اللغوي، الأمر يتحسّنْ، و بالنسبة لي فقد حاولت دائماً أن أحافظ على طموحي الفني والفكري و لم يخذلني الجمهور في غالب الأحيان رغم أن الطموح يصطدم في السينما والتلفزيون بالشروط الإنتاجية المجحفة التي تصل بك أحياناً لأن تقول: "كفى! تعبت من هذا الصراع ْ!" لكن تعود من جديد وأنت تأمل بأن قول نصف ما تصبو إليه أفضل من لا شيء و أن النصف الثاني ستبدأ بملئه رويداً رويداً و هناك من سيكمل الطريق.

10 ـ  قدمت في التلفزيون مجموعة من المسلسلات أسميتها: النهضة المجهضة، هل تعتقد أن المسلسل التلفزيوني يحتمل رؤى و مضامين فكرية على قدر من الأهمية إذا أخذنا في عين الاعتبار أن جمهور التلفزيون هو بالمقام الأول جمهور يفتش عن التسلية؟ كما أن بعض المخرجين اليوم يعتبرون أن التلفزيون مستنقع ميؤوس منه بسبب آلية الإنتاج و التسويق و التلقي التي تحكمه و التي تجعل المخرج في مواجهة مع الرقابة الإجتماعية إلى جانب الرقابات الأخرى، كيف تنظر إلى هذه النقطة؟

ــ لا أوافق هذا الرأي إطلاقاً فأعمال التسلية الفارغة موجودة في كل الفنون بنسبة أكبر من أعمال الفكر والمتعة الفنية لكننا قدمنا أعمالاً كثيرة، أنا وأبناء جيلي وجيل من أتى بعدنا وسار على هذا الطريق، لاتتفق مع هذه النظرة و لو عدنا لمسلسلات النهضة المجهضة من "هجرة القلوب إلى خان الحرير إلى الثريا إلى الأيام المتمردة ..." و لو أضفت إليها أعمال العديد من أبناء جيلي ثم أعمال حاتم علي وأبناء جيله لوجدت أننا لم نتوقف عن إنتاج الأعمال السينمائية التلفزيونية ذات المضامين الهامة، و تجربتي التي استمرت خمسة عشرة سنة منذ نهاية التسعينات في إنتاج أربعة عشرة مسلسلاً وستة أفلام لصالح شبكة أوربت تؤكّد أنها صنعت كلّها دون أي تدخّل رقابي، و تستطيع أن تسأل أحمد رشوان الذي أنتجت له فيلم "بصرة" و حاتم علي الذي كتبت وأنتجت له "الليل الطويل" إذا كان هناك أي تدخل في فيلميهما المتميّزين والدليل كمية الجوائز الهامة التي حصلا عليها، كما أنني تعاونت هذا العام مع شركة ميتافورا الناشئة في مسلسل "وجوه وأماكن" ولم يتدخل أحد في مضمون عملي الشديد المباشرة عن الحالة السورية ومن وجهة نظري المعارضة، و الرقابة الاجتماعية هي اليوم مشكلة لأنها تقوم على استغلال سياسي ابتزازي لمشاعر لا تتولد حقيقة عند الجمهور لكن أصحاب الأفكار المنحرفة عن جادة العقل "صنعوا منها مهنة من لا مهنة له" و الرد هو بمزيد من الأعمال التي تنير الواقع المظلم وتنتصر للعدالة، بالطبع هناك دائماً صعوبات وصراع شرس، لكن مهمة الفنان المصرّ على الحفاظ على مستواه وقول الحقيقة بقالب فني ممتع هي أحياناً شبه مستحيلة، لكنها في هذه "الشبه" الضيّقة مفتاح أمل للخروج من النفق وتقديم العمل السينمائي أو التلفزيوني الذي يرضي الطموح ويبعث متعة السير خطوة نحو الهدف، وهي متعة ما بعدها متعة.

11 ـ ما هو معيار نجاح المسلسل التلفزيوني بالنسبة إليك خاصة في ظل غياب جهد نقدي موازي للجهد الإنتاجي؟ هل يعتبر الجمهور معياراً للنجاح أم الآراء و الأحكام التي يطلقها بعض النقاد من المهتمين و المتابعين أم أن ذلك مرتبط باعتبارات أخرى؟

ــ المشكلة النقدية في التلفزيون أصعب منها في السينما فكبار النقاد العرب "لا يتنازلون"  بالحديث عن المسلسلات إلا إذا تحولت لظاهرة سلبية، بالنسبة لي أعتمد على إحساسي (لا تنسى أنني ناقد أيضاً) كما أعتمد على آراء من أثق بهم من أصدقائي و تعامل الجمهور معي وآراءه تهمني وتعطيني مؤشرات آخذها بعين الاعتبار خاصة في المسلسلات التي لا تعجب الكثيرين أو في المسلسلات التي يكون نجاحها الجماهيري والنقدي كبيراً.

12 ـ رجعت إلى السينما عبر فيلم (التجلي الأخير لغيلان الدمشقي) بعد رحلة طويلة في الدراما التلفزيونية، ما الذي اختلف في سينما الأستاذ هيثم حقي بعد التلفزيون عن سينماه قبل التلفزيون؟

ــ لا أعتبر أنني تركت العمل السينمائي إطلاقاً رغم مرور 30 عاماً على فيلمي السينمائي الطويل لكنني كنت برأيي أقدّم أعمالاً سينمائية طويلة أكثر من المعتاد بتقنيات تلفزيونية وبين كل هذه المسلسلات أخرجت 22 فيلماً تلفزيونياً ضمن سلسلتيّ "صور اجتماعية" و "موزاييك" حتى أثبت أن طول أو قصر الفيلم لا يغيّر لغته، (التجلّي الأخير لغيلان الدمشقي) كان محاولة على طريق تطبيق الرؤية التي أسست عليها مشروعي الفني والمعتمدة على التقاط مؤشرات يعطيها الواقع وتحاول أن تتعامل معها لتجد معادلاً فنياً لها، و القضية بالنسبة لي كانت في صعود الإسلام السياسي قبل الثورة مما جعلني أعود لتاريخ الصراع الذي أهتم به كثيراً بين العقل والعدل من جهة (غيلان، ابن رشد، الحلاّج، الكواكبي ...)، و بين إسلام الإذعان والتكفير، و وجدت وسيلتي بمثقف خائف يعيش حلم الثورة على الطغيان حين يرى نفسه في مكان غيلان الدمشقي الشجاع، و حلم الجنس والثروة حين يضع نفسه مكان هشام بن عبد الملك الحاكم المستبد لكنه المتمتع بالنساء والسلطة وبعلماء السلطان الذين يفتون له بما يريد، و أردت بالمقابل أن أقدم أملاً بمجموعة شباب تغني للحرية وتدعو للثورة التي ستتحقق بعد ثلاث سنوات وسيغني هؤلاء الشباب فيها صوت العدل والعقل، و ضمن عالم بين الخيال والتاريخ والواقع أردت أن أقدم هذه الرؤية بواسطة شخصية متناقضة أداها فارس الحلو باقتدار كبير. في النهاية لا أعتبر أنني خرجت من بوابة السينما العريضة لأتخبّط في ما يسمونه "أوحال الدراما التلفزيونية" فأنا لم أغادر يوماً البوابة المفتوحة على فسحة واسعة يتجوّل فيها أناس لم أتعرف عليهم شخصياً لكنهم صنعوا مجد فن السينما العظيم وكنت دائماً وأنا أخرج أعمالي أتطلع إليهم عبر البوابة وأنهل منهم لأنني لم أشعر يوماً وأنا أخرج أي لقطة صورتها في الدراما التلفزيونية أو السينمائية أنني أتحدث بلغة غير لغة السينما فأنا لا أتقن سواها.

عمرو علي
15 / 12 / 2015
منشور في مجلة نقاد دراما - العدد 2

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق