الأربعاء، 19 سبتمبر 2018

بدون قيد


                                                


قبل سنوات قليلة و مع انتشار اليوتيوب و هيمنته على مواقع التواصل بوصفه منبراً محترفاً لعرض و تسويق المنتجات البصرية، بما فيها الأعمال الدرامية، حاول بعض العاملين في الدراما السورية، خاصة أصحاب الرؤية المتجددة و المواكبة للتطور، العمل على إنجاز أعمال مخصصة للعرض عبر الإنترنت لعلّ أبرزها تجربة محطة تحت (ال_35) التي أنتجت برامجاً تنوعت بين التسجيلي و الديكو-دراما وصولاً إلى محاولة صناعة مسلسل سرعان ما توقف بعد تصوير حلقة أو حلقتين، كما أنني قمتُ خلال إقامتي بمصر في سنة 2013 بكتابة عدة حلقات من مسلسل عزمتُ على تصويره و عرضه عبر محطة (نيو سينما جروب) على يوتيوب خلال موسم رمضان في محاولة لإيجاد محطات عرض بديلة عن الفضائيات التلفزيونية قبل أن يتوقف المشروع لصعوبة إيجاد الممولين و استخراج الموافقات اللازمة للتصوير، أما اليوم فقد تجاوز صنّاع بدون قيد كل التجارب السابقة في هذا الاتجاه و نجحوا بتحويل الفكرة المغرية لمسلسل مميز و فريد من نوعه في الدراما السورية، و ربما الدراما العربية عموماً، و للمرة الأولى أتيحت للمشاهد حرية اختيار طريقة المشاهدة عبر إمكانية متابعة قصّة شخصية واحدة سيقودها مصيرها لاحقاً إلى محطة بينزين مهجورة على الحدود اللبنانية حيث ستتقاطع الشخصيات الثلاث في النهاية بين مسافر من سورية و عائد إليها، و إذا كان إنجاز تجربة جديدة لناحية النوع و طريقة العرض نقطة تُحسب لصالح المسلسل فإن ما يُحسب لصالحه، في المقام الأول، هو الجودة الفنية الملفتة في الصناعة و الاحتراف الواضح بمتابعة التفاصيل و النجاح الذي لم يرقَ له أحد من قبل في مقاربة الجغرافيا السورية و الإقناع بمكان الحدث المُفتَرض، رغم أن التصوير تمَّ في لبنان، و هذا يعود للعناية الشديدة بالديكور و الملابس و الإكسسوار وصولاً لأدق تفاصيل هذه العناصر كنوع السيارات و لوحاتها و شكل الأرصفة و ألوان الجدران، كما في قضية وفيق، بعيداً عن الاستسهال أو تجاوز التفاصيل بحجّة عدم اهتمام المشاهد بها كما حدث في بعض المسلسلات التي صُوِرَت في لبنان و رغم توهج هذه العناصر في الحكايات الثلاث إلا أنها بلغت أوجها في قضية كريم خاصة مشاهد جبهة القتال عبر اهتمام فائق بالديكور، كما في المبنى المهجور، و الإكسسوار، كما في السيارات و الرايات و انتهاءً بملابس و مكياج الشخصيات و كلّها استطاعت، بدرجة من الدرجات، تحقيق شيء من الإبهار على هذه الأصعدة عززته حركة الكاميرا و أسلوب المونتاج، (القطع القافر)، على الطريقة الأمريكية و المؤكد أنه ليس من اليسير تحقيق كل ذلك دون تلبية المنتج، أو المنتجين، لمتطلبات تحقيق مثل هكذا شرط فني متفوق و هو ما يدلّ على عقلية إنتاجية و إبداعية تحترم المشاهد و تخاطبه بلغة فنية مميزة و راقية و هذا ما افتقده جزء كبير من نتاجات الدراما السورية خلال السنوات الماضية.
على صعيد الأداء أعاد المسلسل اكتشاف أبطاله ليقدمهم من جديد و كأنهم يقفون أمام الكاميرا للمرة الأولى في بداية مشجعة و واعدة خاصة أداء عبير الحريري و ينال منصور و هذا ينسحب على ممثلي الشخصيات الثانوية مثل خالد حيدر و محمد زرزور و كذلك قدم المسلسل اكتشافاً جديداً للفنان القدير محسن عباس الذي لمع بدور الجنرال في فيلم سينمائي و يقدم هنا شخصية أب متسلط بأداء محكم و معبّرلشخصية من لحم و دم مثلها مثل بقية شخصيات بدون قيد التي تكاد، لفرط واقعيتها، تقفز من الشاشة لتسير في شوارع و أزقة سورية و لكن دون أن يهتم صنّاع الدراما و مديروا الفضائيات بنقل معاناتها و همومها إلى الشاشة لدواعٍ تسويقية و سياسية و هنا يُحسب للمسلسل، من ناحية المضمون، طرح قضايا أولتها الدراما السورية، في العموم، ظهرها لعدم "جاذبيتها" و شبه استحالة تسويقها فنقلها المسلسل إلى الشاشة بدون قيد سياسي أو اجتماعي أو تجاري و الحقيقة أنه يؤخذ على قضية وفيق، تحديداً، سرعة الإيقاع و عدم الاهتمام بلحظات التفريغ خاصة أن بطل الحكاية يتعرض للكثير من الأحداث الدرامية التي تستلزم مثل هكذا لحظات للتأمل، و تحديداً، بعد مقتل ابنه و انتحار زوجته و كان يمكن لهذه اللحظات أن تكفل جودة إخراجية أعلى و تأثير أكبر على المتفرج و لكل ما سبق يبرز بدون قيد كتجربة مُلهمة وضعت سقفاً مرتفعاً على صعيد الصنعة و المضمون لما قد يُنجَز بعده من تجارب تحاكي نجاحه في الحضور على منبر عرض طازج و جماهيري و معالجته لقضايا حساسة و مؤثرة بأدوات فنية متطورة و محكمة و برؤية تواكب تطور الدراما و الميديا عالمياً

عمرو علي
22 / 12 / 2017


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق