الأربعاء، 26 سبتمبر 2018

يوم أضعت ظلي في الجونة بدون صنّاعه!



أثيرت، بالتزامن مع انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الجونة، قضية عدم حصول فريق عمل فيلم يوم أضعت ظلي على تأشيرات دخول إلى مصر رغم مشاركة الفيلم في المسابقة الرسمية و توجيه الدعوات أصولاً إلى فريق العمل و هم سوريون يقيمون خارج سوريا. كما لم يساهم حصول الفيلم على جائزة أسد المستقبل في مهرجان فينيسيا أو مشاركته في مهرجان تورنتو و حصول صنّاعه على تأشيرات دخول لكندا بتسهيل دخولهم إلى مصر التي فرضت تأشيرات دخول، مصحوبة بموافقات أمنية، على السوريين منذ عام 2013  لتزيد بذلك طين السوريين بلّة و لتضيف لمعاناتهم اليومية معاناة جديدة خاصة بالنسبة لأولئك اللذين لهم أقارب أو عائلات أو أصدقاء يعيشون في أم الدنيا، و أنا واحد منهم، فرغم السنوات الخمس التي عشتها في القاهرة و رغم تخرجي من معهد السينما هناك إلا أن حصولي على تأشيرة دخول لم يعد أمراً يسيراً على الإطلاق فهذه عملية معقدة لا تحكمها معايير واضحة بل إنها في الغالب الأعم ترتهن لأمزجة المسؤولين لتصبح في النتيجة ضربة حظ قد تصيب و قد تخيب و من البديهي أن هذا الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للفلسطينيين – السوريين و أبرز مثال على ذلك الناقد الراحل بشار ابراهيم الذي لم يتمكن من حضور فعاليات مهرجان القاهرة سنة 2016 لرفض طلب التأشيرة رغم مكانته الكبيرة في مجال النقد السينمائي العربي!
كتب بعض النقاد و الصحافيين اللذين شاهدوا الفيلم في الجونة انطباعات أولية تشير بمجملها إلى أن الفيلم لم يكن على مستوى التوقعات من الناحية الفنية و السينمائية و اعتبر بعضهم حصوله على جائزة فينيسيا نوعاً من المحاباة السياسية لأنه كما يتضح من تلك الكتابات يتنبى أو يميل لموقق المعارضة و المفارقة أن بعض اللذين كتبوا ذلك و بينهم نقَّاد مرموقون لم يكتبوا شيئاً عن منع صنَّاع الفيلم من الحضور و كأن محتوى الفيلم الذي لا يتناسب مع آرائهم مبرر مقنع لمنع فريق العمل من القدوم و بالتالي لا يمكن قراءة صمتهم هذا إلا بكونه قبولاً بإقصاء سينمائيين سوريين و التضييق عليهم في المهرجانات العربية و مشكلة هذا المنطق أنه يشبه منطق اللذين عملوا على استبعاد فيلم رجل و ثلاثة أيام من إنتاج المؤسسة العامة للسينما من مهرجان معهد العالم العربي في باريس متناسين أن الرد على رؤية أفلام قد لا يتفق البعض معها لا تكون عبر المنع سواء منع الفيلم من العرض و المشاركة أو منع فريق العمل من حضور المهرجان إنما تتم بطرق مختلفة كإنجاز أفلام تعبّر عن رؤى مغايرة و هذا سبق و أن حدث في السينما السورية من خلال أفلام تناولت الحياة في حمص خلال السنوات الأولى للحرب أو عن طريق الكتابات النقدية التي تحلل البناء و العناصر الدرامية و تشير لعلاقتها بالظرف الجغرافي و التاريخي خاصة حين تدور الأحداث ضمن سياق شديد الصلة بالزمان و المكان
الثابت أن المهرجان لا تقام لغاية العرض فقط بل هي فرصة للتلاقي و الاحتكاك بالنقًّاد و بالجمهور و بصنَّاع السينما و بالمحطات التلفزيونية و بالأسواق و المنصات السينمائية العالمية و هذا بحدّ ذاته لا يقل أهمية عن عرض الفيلم و رغم أن ظاهرة منع أفلام سورية من المشاركة في المهرجانات ظاهرة قديمة بدأت في 2011 و بلغت ذروتها مع منع أفلام المؤسسة العامة للسينما من المشاركة في دبي و القاهرة و منع أفلام أنجزها سوريون يقيمون في الخارج في المهرجانات العربية و لو بنسبة أقل فإن تعذر حصول صنَّاع فيلم يوم أضعت ظلي على تأشيرة دخول و بالتالي فقدانهم إمكانية حضور في الجونة يدفع بهذه القضية إلى الواجهة من جديد و يوفر فرصة لتكاتف السينمائيين في وجه منع أي فيلم سوري على اختلاف التوجهات و الرؤى من المشاركة و الحضور في المهرجانات العربية و الدولية أو منع صنَّاعه من التواجد في المهرجان فالقضية هنا ليست قضية يوم أضعت ظلي أو غيره من الأفلام بل هي قضية عامة عانى من تبعاتها كل السينمائيين السوريين في الآونة الأخيرة و هي تستهدف السينما السورية بمجملها لأنها تحدّ من قدرتها على الانتشار و نقل صور أخرى لسوريا عبر اللغة السينمائية و الرؤى الفنية الراقية بعيداً عن الصور التي تبثها نشرات الأخبار على هواها و وفق أجنداتها المعدة سلفاً و تحدّ في حالة يوم أضعت ظلي من قدرة السينمائيين على التواصل و الاحتكاك المباشر مع الجمهور العربي و رصد ردود الأفعال في العرض الأول في الشرق الأوسط فضلاً عن التواصل مع مديري المهرجانات و المنتجين و الموزعين العرب المتواجدين في مهرجان نجح بتحقيق ما يُراد له من تميّز و توهج على صعيد المهرجانات العربية و العالمية

عمرو علي
2018 / 9 / 25

السبت، 22 سبتمبر 2018

مزرعة الأبقار: نواة فيلم تسجيلي من رحم الحرب!




شاهدت خلال دورة قرطاج الأخيرة الفيلم التسجيلي الطويل مزرعة الأبقار لعلي الشيخ خضر، و هو واحد من ثلاثة أفلام سورية مشاركة في مسابقة الأفلام التسجيلية، و علي الشيخ خضر سينمائي سوري مستقل سبق له العمل كمونتير و مدير للتصوير في أفلام قصيرة مستقلة قبل أن ينجز فيلمه التسجيلي الأول مزرعة الأبقار الذي يلج إلى عالم الشاب القروي حسن العامل في تربية الأبقار بمزرعته الخاصة في مدينة السلمية. يرافق الفيلم بطله بين أعوام 2010 و 2014 فالمخرج الذي قرر سنة 2010 إنجاز فيلم تسجيلي عن أهله و مدينته سرعان ما يتورط مع اندلاع الأحداث في سوريا برغبة توثيق انعكاس الأحداث على شاب قروي نأى بنفسه عن صراعات المدينة و اعتكف في مزرعته منذ زمن. جاء الفيلم على هيئة حوارات طويلة مع حسن الذي تصّدر الشاشة طيلة زمن الفيلم تقريباً و هو يتحدث عن أحلامه و آماله و مواقفه السياسية و مفادها أن الدولة هي الضامن الوحيد لأمن البلد، و مع تطور الأحداث الأمنية آنذاك يُعتَقل حسن و يتعرض للتعذيب و ينتهي به المطاف إلى التجنيد في الجيش السوري و ينتهي الفيلم مع وصول نبأ استشهاده إلى المخرج الذي غادر سوريا متجهاً إلى مصر كخطوة على درب الوصول إلى أوروبا.

يقول حسن للمخرج - الكاميرا قبل التحاقه بالخدمة العسكرية: صورني.. يمكن هي أخر مرة تشوفني! ثم يرفع يده ملّوحاً للمخرج و للكاميرا و للمشاهدين و كأنه كان يدرك، في تلك اللحظة، أنه ذاهب إلى موت محتم و قد تحول الفيلم بذلك إلى مرثية طويلة لشاب كانت له أحلام و آمال طبيعية لكن مصيره سرعان ما آل إلى نهاية غير متوقعة فرضتها الحرب التي داهمت حياتنا فجأة و في اعتقادي أن المخرج حاول السير على خطا عمر أميرالاي في فيلمه الشهير الطوفان الذي اعتمد على تسجيل حوارات مع شخصيات تقول عكس ما يريد المخرج قوله و قد استطاع أميرالاي، عن طريق الشكل الفني و استخدام لغة سينمائية مرتبطة بالمضمون و مليئة بقيم جمالية معبّرة، أن يحقق تلك المفارقة و يجعلنا نشاركه في موقفه من الأفكار التي ترددها شخصيات فيلمه و ذلك لم يكن ممكناً لولا تسخيره لعناصر لغته السينمائية كافة في صناعة الفيلم فالإضاءة الصوت و المونتاج خلقا جواً عاماً و إيقاعاً ساهم بتسجيل اللقطات وفق نبض و إحساس المخرج أما المشكلة الأساسية في فيلمنا هنا فتكمن في العجز عن تحقيق تواصل مع الجمهور بسبب ضعف اللغة السينمائية و التطويل الذي ليس له داع فقد استفاض الفيلم كثيراً في نقل الحوارات مع حسن من زاوية تصوير واحدة، طيلة الوقت، بكاميرا فيديو متوسطة الجودة (و الشروط التقنية شيء يمكن إغفاله في الفيلم التسجيلي) و هو ما أدى لخروج أكثر من نصف الجمهور من الصالة خلال أول ربع ساعة مما اضطر المخرج لمطالبة الباقين بعد العرض بإعطاءه فرصة للدفاع عن الفيلم رغم أن مهرجان قرطاج لا يعقد عادة ندوات بعد العرض و بحسب الناقد بشار ابراهيم ترتبط مشكلة الفيلم الرئيسية بالمونتاج لأن مخرجه افتقد لشجاعة الحذف و الاستغناء عن الأزمنة الإضافية و بالتالي جاء فيلمه مثخناً بزمن إضافي كان من الأجدى حذفه للمحافظة على إيقاع رشيق و درجة أكبر من التواصل مع الجمهور كما لفتت مقالة علا الشيخ في جريدة الحياة إلى أن الفيلم لا يكشف عن موقف سياسي واضح لصانعه بقدر ما يفسح المجال للتأويل و هذه نقطة تتطلب المراجعة فتعليق المخرج في مشهد النهاية يقول بأن المسؤولين في الجيش زجوا بحسن و برفاقه في موقع اشتباك متقدم مع المجموعات المسلحة أي أن بطلنا قد دُفِعَ دفعاً إلى الموت رغم أنه التحق بالجيش طواعية لقناعته بأنه ذاهب للدفاع عن بلده و في حوار شخصي مع المخرج محمد ملص رأى أن مزرعة الأبقار نواة فيلم تسجيلي فقد جزءً كبيراً من أهميته و تأثيره لأنه في حاجة ماسة لبناء جديد يعتمد على التكثيف و الاختزال.

عمرو علي
2017 / 2 / 18

هيثم حقي: التجربة التي صارت مدرسة!


خلال تواجدي في مصر للدراسة دار الحديث أكثر من مرة في أروقة معهد السينما و بين الأساتذة و الطلبة و المتخصصين - خصوصاً في دروس "حرفية الإخراج التلفزيوني" - حول التأثير الذي خلّفه المخرجون السوريون في الدراما التلفزيونية المصرية و الذي اتضح في اتجاهات عدة أهمها الاهتمام بالمضمون و طرح قضايا اجتماعية راهنة و الاعتماد على البطولات الجماعية بدلاً من الارتكاز على نجم واحد للمسلسل إلا أن النقطة التي جرى الحديث عنها باستفاضة هي آلية التصوير بكاميرا واحدة أو ما يعرف "بأسلوب التصوير السينمائي" فقد كانت المسلسلات التلفزيونية في مصر تصور داخل الإستديوهات و بأسلوب الفيديو القديم (3 كاميرات) حتى سنة 2006 تقريباً و لهذا أسبابه الكثيرة. في السنة الأخيرة من الدراسة طُلب منا كطلاب في مادة "مناهج البحث" إجراء حوارات مع متخصصين في المهن السينمائية المختلفة حول قضايا تهم بحثنا الشخصي و كانت رغبتي بإجراء حوار مطول مع المخرج "هيثم حقي" وليدة إدراكي لأهمية الأثر الذي تركه في الدراما السورية منذ نهاية الثمانينيات عبر انطلاقه إلى خارج الإستديوهات و التصوير بكاميرا واحدة في محاولة لإستخدام اللغة السينمائية في صناعة المسلسل التلفزيوني و لا شك أن هذه التجارب فتحت الباب واسعاً أمام المخرجين السوريين لتقديم اقتراحات بصرية و رؤى مختلفة ضمن المسلسل التلفزيوني و الحقيقة أن معظم هؤلاء المخرجين أسسوا نجاحاتهم التالية اعتماداً على الأساس المتين الذي شيّده "هيثم حقي" و الذي أثبت نجاحه و أهميته مع استمرار التجربة. في أواسط التسعينيات خاض صراعاً مع أنصار الشكلانية في التلفزيون – إن صح التعبير – عبر صفحات مجلة "فنون" و غيرها من الصحف ثم طبع كتابه "بين السينما و التلفزيون" و الذي فند في صفحاته تجربته مع استخدام اللغة السينمائية في التلفزيون و قبل أقل من عشر سنوات أطلق مشروعاً طموحاً لإنتاج أفلام سينمائية حقق بعضها حضوراً في مهرجانات سينمائية و أنعشت الأمل بإحياء السينما السورية من جديد. انتقل إلى "باريس" منذ 2012 حيث ما يزال يقيم إلى اليوم. كان الأساتذة و المشرفون في معهد السينما يعرفون الأستاذ "هيثم حقي" جيداً و يدركون أثره العميق في الصناعة التلفزيونية السورية و الذي انتقل بعد فترة طويلة إلى الدراما المصرية و أظن أننا ندرك جميعاً أنه لولا تلك التجربة و ذلك الأثر لكان على الدراما السورية أن تقطع شوطاً طويلاً قبل أن تتخلص من مفهوم التلفزيون القديم و تنطلق نحو آفاق صنعت لها حضوراً و تأثيراً لا يزال راسخاً حتى الآن.



1 ـ تقول في إحدى الحوارات: "كنت دوماً أسير السينما الشعرية" و اليوم يعتبر الكثير من النقاد و المتابعين الأستاذ هيثم حقي رائداً للواقعية، هل اندفعت إلى الواقعية بسبب التلفزيون و شرطه الفني و الإنتاجي أم أن ذلك الاتجاه كان وليد قناعة و خيار شخصي بتناول المواضيع و القضايا تناولاً واقعياً على صعيد الشكل و المضمون؟

ــ  السينما الشعرية برأيي هي واقعية لكنها تنحو نحو الجمالية والغموض فهي كما تعلم تجمع حالة الشعر مع الصوت والصورة، بما فيهما من مؤثرات تشكيلية وموسيقية وإيقاعية وخلال فترة دراستي في موسكو نهاية الستينات وبداية السبعينات كان للمدرسة الشعرية السوفياتية حضور قوي ولها مشاهير كخوتسييف وأبولادزة وبارادجانوف وبالطبع تاركوفسكي ... ولم يَسلم من التأثر بها أحد من الجيل الشابّ، بالنسبة لي ظهر التأثّر جليّاً في فيلمي للتخرّج "أوتيل تاناتوس" الذي جمع بين شاعرية غامضة ونهاية تسجيلية وحين صنعت فيلميَّ الروائيين الأولين "النار والماء" و "الأرجوحة" كنت أسعى في هذا الإتجاه لكن في الوقت نفسه استعدت الحالة التسجيلية في "مهمّة خاصّة" و "السَّدْ" وفي فيلمي الطويل الأول "ملابسات حادثة عادية" الذي قدّمت فيه روائية تسجيلية، لدرجة أن مشهد العمال في مكان انتظار العمل صُوِّرَ بكاميرا سرّية تم تمويه مكانها قبل يوم لاستحالة التصوير في باب الجابية: وضعت الممثلين بين العُمّالْ ولم يكن أحد يعرفهمْ. كان صدى ذلك جيداً، و حين بدأت العمل في الدراما التلفزيونية اعتمدت الواقعية ْ الخالصة والأقرب إلى التسجيلية: تسجيل الواقع كضرورة فرضتها الرغبة بالحديث عن مشاكلنا بمباشرة تصل إلى جمهور واسع وظهر هذا في مسلسليّ الأولين "الوسيط" و "عزّ الدين القسّامْ"، و لم تعد تؤرقني الحالة الشعريّة إلا عندما قمت في "دائرة النار" الذي أخرجته عام 1988 بالإقتراب أكثر من اللغة السينمائية الراقية التي أصبحت مشروعي وقد أتاح لي نصّ ممدوح عدوان الذي يختلط فيه الشعر بالواقع فرصة تقديم مشاهد سينمائية لها هذا التأثير وهو ما حاولت تمريره في كلّ أعمالي من "هجرة القلوب إلى القلوب" عام 1990 إلى "خان الحرير" عام 1994 و "الثريّا" 1996 و "ذكريات الزمن القادم" 2003 و "الشمس تشرق من جديد" 2006 بل إنني صنعت في 1998 مع خالد خليفة مسلسل "سيرة آل الجلالي" وفيه العديد من المشاهد الشعرية وخاصة مشهد يوم الحبّ في حلب، الذي استقبل كقصيدة، بالنتيجة ... هذا تصنيف نقدي يفصل بين الأشكال الفنيّةْ أما أنا فأعتبر نفسي واقعياً وحين تتاح لي الفرصةْ عبر النصّ، أقدّم بدوري ما أستطيع من  "الشّعر" السينمائي.

2  ـ هل يكفي تصوير ما هو واقعي لنطلق على عمل فني ما صفة عمل واقعي؟ هل يعتبر السير على نهج رواد الواقعية الإيطالية الجديدة و ما صنعوه في أفلامهم مثل زافنتيني روسوليني و دي سيكا و فيسكونتي من تصوير في المواقع الحقيقية و غير ذلك كافياً لنحصل في النهاية على فيلم واقعي أم أن الواقعية تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؟ ما هو مفهوم الواقعية بالنسبة للأستاذ هيثم حقي؟

ــ الواقعية الإيطالية الجديدة والموجة الفرنسية الجديدة وسينما كيروساوا اليابانية وساتجيت راي الهندية كانت كلها مع المدرسة السوفياتية بالنسبة لجيلنا أهمّ منابع التعبير عن الواقع بسينمائية عالية المستوى و من خلال تجربتي الطويلة مع السينما والتلفزيون واللقاءات والمقالات التي كتبتها توصّلت إلى أن أجمل تعبير عن الواقعية هو عنوان كتاب روجيه غارودي الرائع "واقعية بلا ضفاف" الذي يضع فيه بيكاسو وسان بيرس ضمن الواقعيين فالواقعية، بالنسبة لي، هي الإنتقاء الكاشف لما يجري على أرض الواقع من أجل تحليله وطرح الأسئلة المهمة لمحاولة دفع الناس لتغييره. من أجل هذا أركّز على أهميّة الشكل النابع من المضمون  وأعتبر أن تعريف إيزنشتين الموجز: "الشكل مضموني"، عبقري مثل صاحبه، لأن الشكل هو الذي يجعلنا نقرأ المضمون كما يريده المبدع الذي يحرضنا لنكون شركاء معه في عملية الكشف الممتعةْ، أما عن خروج الكاميرا إلى الأماكن الحقيقية والتصوير بكاميرا واحدة واعتماد المدرسة الواقعية في التمثيل فكلها وسائل لتحقيق مستوى أعلى من اللغة السينمائية الراقيةْ.

3 ـ يرى أنصار الفن لأجل المجتمع أن على السينما أن تكون شديدة الصلة بالواقع بمعنى أنها تأخذ من الواقع لتعطيه و بالتالي عليها البحث في الموضوعات المتعلقة بالمشاكل الإجتماعية بينما يذهب البعض إلى التعامل مع السينما على اعتبارها غوص أو بحث في الذات و تقديم قراءات ذاتية أو حتى إعادة بناء العالم وفق صورة تنسجم مع هواجس و أفكار و أهواء السينمائي، أين يقف الأستاذ هيثم حقي من هذين الاتجاهين؟

ــ وهل الغوص في أعماق الذات البشريّةْ إلا غوص أعمق في مشاكل الواقع الحقيقية وانعكاسها على الفرد وبالتالي على المجتمع المكوّن أصلاً من أفراد؟ وحين يكون الفنُّ حقيقيّاً فإنه ينهل من الواقع بإعادة تركيبه لجلاء صورته وإنارة الأماكن المظلمةْ فيه لتغييره و هو بهذا يجعلنا نخوض تجربة حياة الآخر ونتملّكها لتصبح تجربتنا، وحياتنا مع الفنّ هي تجارب كثيرة نجمعها، لم نعشها، لكن الفنّ جعلها لنا، و كلّما كانت التجربة عميقة وصادقة كلّما كانت الإستفادة منها أكبر ... لا أجد تناقضاً بين التعمّق في الذاتْ الإنسانيّةْ والغوص في مشاكل المجتمع لأننا في العمق لا نقيم حواجز إسمنتية بين الإنسان وواقعه.

4 ـ  تعاونت بعد عودتك من موسكو مع دائرة الإنتاج السينمائي في التلفزيون العربي السوري في مشاريع عديدة مثل (النار و الماء) و (الأرجوحة) و (ملابسات حادثة عادية) و قدمت فيلماً روائياً قصيراً – (اللعبة) - من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، لماذا لم تتعاون مع المؤسسة العامة للسينما في مشاريع أخرى أسوة بالعديد من السينمائيين اللذين قدموا كل – أو معظم – أفلامهم من خلال المؤسسة للنجاة من الضغوطات التي قد يتعرضون أو من التنازلات الفنية التي قد يضطرون للإقدام عليها في حال عملوا خارج إطار المؤسسة مع القطاع الخاص الذي كان حاضراً آنذاك أو حتى في حال اتجهوا إلى الدراما التلفزيونية بما تفرضه على السينمائي من شكل و مضمون معيّن من الصعب أن يحيد المبدع عنه؟

ــ بعد أن قدّمت فيلمي "اللعبةْ" 1979 مع مؤسسة السينما، فكّرتُ كثيراً إلى أين عليَّ أن أتّجهْ!
كنت قد ذقت طعم النجاح الجماهيري لمسلسل "الوسيط" 1978 وما أثاره من لغط ونقاش وصل إلى الصفحات الأولى من الصحف السورية و بسبب منع فيلمي "ملابسات حادثة عاديّة" لثلاث سنواتْ وبسبب التضييق على الإنتاج السينمائي في التلفزيون لم يعد أمامي في ذلك الوقت سوى التفكير في العمل مع مؤسسة السينما وكان فيها 26 سينمائياً ينتظر كل منهم فرصة إنتاج الفيلم الوحيد في العام، هو نتاج المؤسسة من الأفلام سنوياً، و بالطبع كانت فرصتي أكبر بسبب عدد الأفلام التي أخرجتها لكنني لم أرض الدخول في هذه المنافسة لأنتزع فرصة من كان ينتظر سنوات ليحصل على فرصته، كما أني لا أستطيع الانتظار دون عمل، في هذه الفترة حصلت على نصّ تلفزيوني متميّز لـ "أحمد دحبور" عن المناضل السوري الكبير "عز الدين القسّام" فكتبتُ معه السيناريو والحوار بإشراف درامي "لحسن عويتي"، كان العمل يحتوي على أربع ساعات من أصل 15 من التصوير الخارجي وفي أماكن صعبة: ميناء أسواق معارك جبلية مظاهرات ... إلخ . في ذلك الوقت لم يكن أحد عندنا قد تجرأ على استعمال الكاميرا المحمولة والتصوير لقطة لقطةْ وفي الأماكن الحقيقيةْ، فقد كانت هذه الكاميرا قد دخلت حديثاً واستعملت للأخبار فقط، و حين طلبت من التلفزيون إعطائي إياها للتصوير الخارجي لمشاهد المسلسل اعترض المهندس المسؤول وأكّد لي استحالة ذلك لكنني كنت قد جربت التصوير فيها في مسلسل "حياتنا" الذي صورته في دبي وعجمان فأصريت على التصوير بواسطتها وقد استجاب التلفزيون بعد تدخّل دائرة الثقافة في منظمة التحرير المنتجة للعمل مع تلفزيون قطر و كانت النتيجة أنني اتخذت قراراً بأن أرجع خطوة إلى الوراء في مجال السينما من أجل خطوتين إلى الأمام في مجال التلفزيون، أي أن أتراجع في مستوى اللغة السينمائية في أعمالي بسبب طريقة الإنتاج والتضييق الرقابي والمجتمعي في التلفزيون لأحقّق نقلة إلى الأمام في لغة الدراما التلفزيونية الأقرب إلى المسرحية وقتها و ذلك باستخدام اللغة السينمائية الراقية في التلفزيون حيث أنني أعتبر أن الدراما التلفزيونية والفيلم السينمائي يصنعان بها و قد فصّلت ذلك في كتابي "بين السينما والتلفزيون" و أعتقد أن مشروعي نجح فكلّ الأعمال السوريّة حتى التجاريّة منها تصنع بلغة سينمائية متقدمة اليوم.

5 ـ رغم الغموض الذي يكتنف تجربة القطاع الخاص في السينما السورية يعتبرها البعض تجربة فريدة و ملفتة بينما يعتبرها البعض الأخر مجرد لهاث وراء الإيرادات، ألم يكن ممكناً السمو – إن صح التعبير – بتلك الإنتاجات لتقديم ما هو أكثر أهمية فيما لو أخذنا بعين الاعتبار بعض الأفلام التي حاولت مقاربة مواضيع إجتماعية ملّحة و جدّية مثل (أموت مرتين و أحبك) و (غابة الذئاب)؟ لماذا لم تفكر في العمل مع القطاع الخاص؟

ــ القطّاعْ الخاصّ كان يعتبرني عدواً وصديقاً في الوقت ذاته: عدواً بسبب نقدي لأفلامه والسّخرية منها ومن مستواها الهابطْ، و صديقاً بسبب دفاعي عن تحرّر أفلامه من قيود رقابية عربية صارمة وبسبب قناعتي أن هذه صناعة فيها التجاري، الغالب بالطبع، لكن يمكن أن تكون قاعدة تقنية وإنتاجية لأفلام تستفيد من هذا المناخ الإيجابي رقابياً، لكن الدولة تنبهتْ إلى هذا الجانب، فعمل مقصّ الرقيب على إنهاء سينما القطاع الخاص ولم يبقَ سوى سينما تجاريّةْ قليلةْ مثل أفلام النجم الكوميدي دريد لحام: فيلم كل ثلاث أو أربع سنوات، واختفى العري الجاذب للجمهور تماماً من الأفلام في سياسة ممنهجة من قبل وزارة الثقافة تحت شعار محاربة الابتذال، و في هذه الأثناء دخل النظام في صراع مع التنظيم المُسلّح للإخوان المسلمين واعتبرها فرصة جاءته على طبق من ذهب فقرّرَ أن يُكمّمَ الأفواه بحجة ما يتعرّض له من "هجمة شرسة" و بالطبع وفي ظرف كهذا ووسط شبه تهديد أمني بسبب انتمائي - غير الحزبي لكن الفكري لليسار – و موقفي المعارض الواضح، كان عليّ أن أختار، فوجدت أن تفادي المواجهة والذهاب للعمل خارج سوريا أفضل لإبقاء الصوت مسموعاً.

6 ـ قدمت مع العديد من السينمائيين عبر المؤتمر التحضيري للسينمائيين السوريين جملة من الاقتراحات و التوصيات التي كان يكفل تحقيقها تجاوزاً للعديد من المشكلات التي عانت منها السينما السورية، هل تعتقد أن الجهات الرسمية القادرة على تنفيذ تلك التوصيات كان تعرقل ذلك خشية قيام صناعة سينمائية حقيقية أم أنه ثمّة أسباب أخرى؟

ــ بالظبط ... كما ذكرت في سؤالك: فهم كانوا ظاهراً يتحدثون في الثقافة وتطوير السينما و واقعاً كانوا لا يطيقون المثقفين، المسرحيين والسينمائيين على وجه الخصوص، بسبب معارضتهم للنظام بكلّ الأشكالْ فبعد المؤتمر تشكلت لجنة كنت فيها أنا والراحل عمر أميرالاي عن السينمائيين من خارج المؤسسة، و المخرج الراحل خالد حمادة عن مؤسسة السينما، ونقيب الفنانين ومدير عام مؤسسة السينما، و كان مشروع المجلس الوطني للسينما والصندوق الوطني لتمويل الأفلام في القطاع الخاص مطروحاً من قبلنا وبتأييد ومساهمة من خالد حمادة: المماطلة وعدم الدعوة لاجتماعاتْ ثمّ بسبب "ظروف البلد!" توقّف حينها حتى النقاش في الموضوع ولم يعد مطروحاً حتى نهاية التسعينات وبداية القرن الحالي مع ربيع دمشق حيث قمنا، عمر أميرالاي وأسامة محمد وأنا، بإحياء الموضوع لكننا لم نحصل إلا على وعود كاذبةْ.

7 ـ  أنتجت مسلسل (دائرة النار) الذي يعتبر أول مسلسل سوري يصور بكاميرا واحدة، هل كان ذلك بسبب تخوف التلفزيون السوري من المغامرة في إنتاج مسلسل يعتمد على تلك الطريقة في التصوير و تفضيله التريث لمتابعة نتائج تلك التجربة قبل أن يقدم على تبنيها؟

ــ لم يكن التلفزيون في وارد الإنتاج أصلاً: كان يغيّر الآستوديوهات للملوَّنْ ومضى زمن على إنتاجه الشحيح أصلاً و بسبب عودتي من الخارج مع مسلسل الكاتب والمنتج الراحل داوود شيخاني "حرب السنوات الأربع" 1985 الذي أظهر إسمي كمخرج للأعمال الضّخمةْ ذات الشكل الأقرب للسينما فقد عرض عليَّ المهندس فيصل مرعي (و هو منتج شاب كان يعمل في التلفزيون وله حظوة لدى الإدارة) إخراج مسلسل "غضب الصحراء" عام 1986 لحسابه و قد أغواني الموضوع لتقديم حكاية بقالب جمالي و حتى تلك اللحظة لم يكن مسموحاً أو ممنوعاً الإنتاج الخاص في مجال التلفزيون لكنه كان عرفاً غير مرغوب فيه لمكانة التلفزيون كإعلام نظام وحتى مسلسلات دريد لحام وداوود شيخاني وعلاء الدين كوكش المنتجة خارج التلفزيون الرسمي كانت تصوّر في بيروت ودبي وأثينا و هنا تعاون التلفزيون بتأجير المعدات التي لم يكن في ذلك الوقت أحد غيره يملك مثلها و جاءت إدارة متحمسة للإنتاج الخاص وعقدت اجتماعات لدعم هذا الإنتاج وحتى الإنتاج المشترك كما حصل مع مسلسلي "هجرة القلوب إلى القلوب" عام 1990 والذي كتبه الراحل عبد النبي حجازي والذي تبوأ بعدها منصب مدير عام الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وتحمس وساعد كثيراً في دعم إنتاج القطاع الخاص و قد حرَّضني نجاح "غضب الصحراء" الذي صوّرت أغلب مشاهده خارج الأستوديو على أن أبحث عن عمل معاصر أستطيع تصويره بالكامل في أماكن حقيقية وبكاميرا واحدة  و حصلت على نصّ "دائرة النار" للكاتب المعروف هاني السعدي (مؤلف غضب الصحراء) عام 1986 و قام الراحل ممدوح عدوان بإعادة الكتابة وبإشراف درامي للراحل شريف شاكر و بتعاون وثيق معي، ميّز علاقتي مع الراحل ممدوح عدوان الذي جمعتني به صداقةْ ومشاريع كثيرةْ ونقاشاتْ لا تنتهي من أجل إنجاح مشروع إقامة صناعة درامية تلفزيونية سورية، و قد حاولت مع العديد من المنتجين وقتها الحصول على تمويل لإنتاج "دائرة النار" دون فائدة فالكل اعتبر الفكرة جنونية: كيف ستصنع ما يعادل عشرة أفلام في وقت لا يكفي لفيلم ...؟ والكاميرا الواحدة...؟ وفيديو...؟ هذا شيء غير معقول ...!!!! و أخيراً وبمساهمة عدة أصدقاء في التمويل، و كنت بدوري قد بعت بيتي وتحولت إلى منتج، أنا الديموقراطي الإجتماعي اليساري، صرتُ منتجاً وعضواً مؤسساً للجنة صناعة السينما والتلفزيون في غرفة صناعة دمشق...!

8 ـ  يعتبر البعض أن تصوير الدراما التلفزيونية بكاميرا واحدة محاولة لمغازلة السينما في التلفزيون بسبب شح الإنتاج السينمائي و عدم توفر فرص مناسبة لعمل الأفلام، هل كان ذلك هو الدافع الأساسي وراء التصوير بكاميرا واحدة أم أن الأمر يتعدى ذلك إلى أسباب أخرى؟

ــ هذا الموضوع الرئيسي لمقالات وأبحاث وثقت بعضها في كتابي "بين السينما والتلفزيون": القصّة لا تتعلق فقط بعدم وجود إنتاج وصناعة سينمائية حقيقية، فالسينما السورية يمكن أن نعتبرها مجموعة أفلام، بعضها رائع، لكنها في المحصّلةْ ليست صناعةْ، فحين أنتج القطاع الخاصّ عام 1974 خمسة عشر فيلماً، وأنتج القطاع العامّ خمسة أفلام طويلة وعدّة أفلام قصيرة بعضها في دائرة الإنتاج السينمائي في التلفزيون، كنا على عتبة تأسيس صناعة سينمائية سورية تنتج وسطياً عشرين فيلماً في العام، لكن التجربة أحبطت للأسباب التي ذكرتها سابقاً وبقي الإنتاج السينمائي راكداً لا يحرك مياهه سوى فيلم واحد في العام وهو، أي هذا الفيلم، مرّة يصيب فيكون جيداً وتحصل السينما السورية على جوائز تحسب حقاً لصناع الأفلام، و مرة يخيب فيذهب إلى العلب، و تبقى الإدارات المتعاقبة تهتم بالشكليات والحفلات والمهرجانات وتقدم للناس "وهْم الإنجاز" و ومضت السنوات ونحن على هذا الحال، أما الدراما التلفزيونية ورفع سوّيتها اللغوية السينمائية فهو مشروع جاء بالتجربة كما بيّنت حيث كنت أيام الدراسة في موسكو تناقشت مع معلمي ليف كوليشوف الرائد في الفن السينمائي وصاحب (تأثير كوليشوف) الذي هو أساس المونتاج، فقد كان كوليشوف يصرّ على الطلاب بالعمل في الفيلم التلفزيوني، و طبعاً طموحات العديدين كانت سينمائية بحتة، و في النقاش معه قلت له أنني موفد من قبل التلفزيون السوري لدراسة الإخراج، لكنني سينمائي وسأصنع أفلاماً فقط، فقال لي يومها: التلفزيون مهم جداً وفي بلادكم خاصّة حيث لا توجد صناعة سينمائية، اصنع أفلاماً فأنت مؤهل لذلك لكن اهتم أيضاً بالعمل التلفزيوني، لذلك لم أتردد حين عرض عليّ المخرج سمير ذكرى عام 1975 نص فيلم تلفزيوني "قبل الزواج" لأقوم بإخراجه وصوّرت المشاهد الخارجية العديدة بكاميرا سينمائية و فكرت في الموضوع واستنتجت أن الدراما التلفزيونية ومن خلال التجربة، تصنع بلغة سينمائية سواء كانت جيدة أم سيئة، فليس هناك من لغة خاصة بهذه الدراما فكل ما نفعل هو سينما بشروط مختلفة وللتقريب أقول أن أفلام المقاولات هي ذات لغة سينمائية رديئة وفيلم المومياء لغته سينمائية عالية المستوى فوعاء العرض سواء كان التلفزيون أو الشاشة الكبيرة لا يغير من طبيعة اللغة السينمائية للعمل لكنه قد يغير شروط العرض التقنية كضعف ضوء آلة العرض وسوء حال الشاشة والجروح العديدة على النسخة و هذا ما يحدث كثيراً في صالات العرض في بلدنا و القضية ليست عقد نقص سينمائية كما يظنّ البعض بل هي تغيير لقواعد اللعبةْ فحين كان الجميع يعتبر الدراما التلفزيونية مسرحاً مصوراً قلت هذه لغة سينمائية بدائية وهناك العديد من الأفلام الشهيرة في الثلاثينات تشبهُ هذا المسرح المصوّرْ و حين تعتبر أن هذه لغة سينمائية بدائية فأنت تسعى إلى رفع سويّتها مثلما فعل سينمائيو الخمسينات حين خرجوا بموجاتهم الجديدة فارتفاع سقف الطموح لمستوى العمل الدرامي التلفزيوني بسعيه اللغوي السينمائي أوصلته إلى أعمال لا تزال منذ أكثر من عشرين عاماً تعاد سنويّاً على شاشاتنا، وطموحنا بعد أن وحّد التقدم التقني التجهيزات في السينما والتلفزيون، أن نرى أعمالاً تصل فيها اللغة السينمائية في الدراما التلفزيونية إلى مستويات غير مسبوقة، و أنا أؤمن أن جيل الشباب الذي وصل مع نهاية المعركة يمكن أن يُبدع هذه الأعمال.

9 ـ التلفزيون يدخل إلى كل بيت بمعنى أن المخرج هو من يذهب إلى الجمهور و ليس الجمهور هو من يأتي إلى المخرج و هذا يفرض نسقاً خطابياً معيناً يكفل الوصول إلى أكبر شريحة من المتلقين، كيف يمكن لمخرج مثل الأستاذ هيثم حقي تطويع هذا النسق بما ينسجم مع لغته السينمائية؟

ــ  هذه معضلة موجودة أصلاً في السينما والجملة الشهيرة للمنتجين هي: "الجمهور عايز كده" و مجال التجريب ضيّق في السينما والتلفزيون لكن مع مرور الزمن وتراكم الأعمال والسعي لقول الحقيقة وإيجاد المعادل اللغوي، الأمر يتحسّنْ، و بالنسبة لي فقد حاولت دائماً أن أحافظ على طموحي الفني والفكري و لم يخذلني الجمهور في غالب الأحيان رغم أن الطموح يصطدم في السينما والتلفزيون بالشروط الإنتاجية المجحفة التي تصل بك أحياناً لأن تقول: "كفى! تعبت من هذا الصراع ْ!" لكن تعود من جديد وأنت تأمل بأن قول نصف ما تصبو إليه أفضل من لا شيء و أن النصف الثاني ستبدأ بملئه رويداً رويداً و هناك من سيكمل الطريق.

10 ـ  قدمت في التلفزيون مجموعة من المسلسلات أسميتها: النهضة المجهضة، هل تعتقد أن المسلسل التلفزيوني يحتمل رؤى و مضامين فكرية على قدر من الأهمية إذا أخذنا في عين الاعتبار أن جمهور التلفزيون هو بالمقام الأول جمهور يفتش عن التسلية؟ كما أن بعض المخرجين اليوم يعتبرون أن التلفزيون مستنقع ميؤوس منه بسبب آلية الإنتاج و التسويق و التلقي التي تحكمه و التي تجعل المخرج في مواجهة مع الرقابة الإجتماعية إلى جانب الرقابات الأخرى، كيف تنظر إلى هذه النقطة؟

ــ لا أوافق هذا الرأي إطلاقاً فأعمال التسلية الفارغة موجودة في كل الفنون بنسبة أكبر من أعمال الفكر والمتعة الفنية لكننا قدمنا أعمالاً كثيرة، أنا وأبناء جيلي وجيل من أتى بعدنا وسار على هذا الطريق، لاتتفق مع هذه النظرة و لو عدنا لمسلسلات النهضة المجهضة من "هجرة القلوب إلى خان الحرير إلى الثريا إلى الأيام المتمردة ..." و لو أضفت إليها أعمال العديد من أبناء جيلي ثم أعمال حاتم علي وأبناء جيله لوجدت أننا لم نتوقف عن إنتاج الأعمال السينمائية التلفزيونية ذات المضامين الهامة، و تجربتي التي استمرت خمسة عشرة سنة منذ نهاية التسعينات في إنتاج أربعة عشرة مسلسلاً وستة أفلام لصالح شبكة أوربت تؤكّد أنها صنعت كلّها دون أي تدخّل رقابي، و تستطيع أن تسأل أحمد رشوان الذي أنتجت له فيلم "بصرة" و حاتم علي الذي كتبت وأنتجت له "الليل الطويل" إذا كان هناك أي تدخل في فيلميهما المتميّزين والدليل كمية الجوائز الهامة التي حصلا عليها، كما أنني تعاونت هذا العام مع شركة ميتافورا الناشئة في مسلسل "وجوه وأماكن" ولم يتدخل أحد في مضمون عملي الشديد المباشرة عن الحالة السورية ومن وجهة نظري المعارضة، و الرقابة الاجتماعية هي اليوم مشكلة لأنها تقوم على استغلال سياسي ابتزازي لمشاعر لا تتولد حقيقة عند الجمهور لكن أصحاب الأفكار المنحرفة عن جادة العقل "صنعوا منها مهنة من لا مهنة له" و الرد هو بمزيد من الأعمال التي تنير الواقع المظلم وتنتصر للعدالة، بالطبع هناك دائماً صعوبات وصراع شرس، لكن مهمة الفنان المصرّ على الحفاظ على مستواه وقول الحقيقة بقالب فني ممتع هي أحياناً شبه مستحيلة، لكنها في هذه "الشبه" الضيّقة مفتاح أمل للخروج من النفق وتقديم العمل السينمائي أو التلفزيوني الذي يرضي الطموح ويبعث متعة السير خطوة نحو الهدف، وهي متعة ما بعدها متعة.

11 ـ ما هو معيار نجاح المسلسل التلفزيوني بالنسبة إليك خاصة في ظل غياب جهد نقدي موازي للجهد الإنتاجي؟ هل يعتبر الجمهور معياراً للنجاح أم الآراء و الأحكام التي يطلقها بعض النقاد من المهتمين و المتابعين أم أن ذلك مرتبط باعتبارات أخرى؟

ــ المشكلة النقدية في التلفزيون أصعب منها في السينما فكبار النقاد العرب "لا يتنازلون"  بالحديث عن المسلسلات إلا إذا تحولت لظاهرة سلبية، بالنسبة لي أعتمد على إحساسي (لا تنسى أنني ناقد أيضاً) كما أعتمد على آراء من أثق بهم من أصدقائي و تعامل الجمهور معي وآراءه تهمني وتعطيني مؤشرات آخذها بعين الاعتبار خاصة في المسلسلات التي لا تعجب الكثيرين أو في المسلسلات التي يكون نجاحها الجماهيري والنقدي كبيراً.

12 ـ رجعت إلى السينما عبر فيلم (التجلي الأخير لغيلان الدمشقي) بعد رحلة طويلة في الدراما التلفزيونية، ما الذي اختلف في سينما الأستاذ هيثم حقي بعد التلفزيون عن سينماه قبل التلفزيون؟

ــ لا أعتبر أنني تركت العمل السينمائي إطلاقاً رغم مرور 30 عاماً على فيلمي السينمائي الطويل لكنني كنت برأيي أقدّم أعمالاً سينمائية طويلة أكثر من المعتاد بتقنيات تلفزيونية وبين كل هذه المسلسلات أخرجت 22 فيلماً تلفزيونياً ضمن سلسلتيّ "صور اجتماعية" و "موزاييك" حتى أثبت أن طول أو قصر الفيلم لا يغيّر لغته، (التجلّي الأخير لغيلان الدمشقي) كان محاولة على طريق تطبيق الرؤية التي أسست عليها مشروعي الفني والمعتمدة على التقاط مؤشرات يعطيها الواقع وتحاول أن تتعامل معها لتجد معادلاً فنياً لها، و القضية بالنسبة لي كانت في صعود الإسلام السياسي قبل الثورة مما جعلني أعود لتاريخ الصراع الذي أهتم به كثيراً بين العقل والعدل من جهة (غيلان، ابن رشد، الحلاّج، الكواكبي ...)، و بين إسلام الإذعان والتكفير، و وجدت وسيلتي بمثقف خائف يعيش حلم الثورة على الطغيان حين يرى نفسه في مكان غيلان الدمشقي الشجاع، و حلم الجنس والثروة حين يضع نفسه مكان هشام بن عبد الملك الحاكم المستبد لكنه المتمتع بالنساء والسلطة وبعلماء السلطان الذين يفتون له بما يريد، و أردت بالمقابل أن أقدم أملاً بمجموعة شباب تغني للحرية وتدعو للثورة التي ستتحقق بعد ثلاث سنوات وسيغني هؤلاء الشباب فيها صوت العدل والعقل، و ضمن عالم بين الخيال والتاريخ والواقع أردت أن أقدم هذه الرؤية بواسطة شخصية متناقضة أداها فارس الحلو باقتدار كبير. في النهاية لا أعتبر أنني خرجت من بوابة السينما العريضة لأتخبّط في ما يسمونه "أوحال الدراما التلفزيونية" فأنا لم أغادر يوماً البوابة المفتوحة على فسحة واسعة يتجوّل فيها أناس لم أتعرف عليهم شخصياً لكنهم صنعوا مجد فن السينما العظيم وكنت دائماً وأنا أخرج أعمالي أتطلع إليهم عبر البوابة وأنهل منهم لأنني لم أشعر يوماً وأنا أخرج أي لقطة صورتها في الدراما التلفزيونية أو السينمائية أنني أتحدث بلغة غير لغة السينما فأنا لا أتقن سواها.

عمرو علي
15 / 12 / 2015
منشور في مجلة نقاد دراما - العدد 2

من أطلق رصاصة الرحمة على الدراما السورية؟




يبدو بوضوح لأي متابع للشأن الدرامي أن صناعة الدراما السورية تلفظ اليوم أنفاسها الأخيرة بعد مواسم طويلة من المرض و التعثّر فانفخاض كمية الإنتاج و رداءة المستوى و صعوبات التسويق هي، بلا شكّ، أعراض مرض عضال يساهم أطباء هذه الدراما، من منتجين أولاً و نجوم و مخرجين ثانياً، بتعزيزه و تقويته ليلتهم جسد صناعة تقتات عليها آلاف الأسر فاللامبالاة و غياب الحسّ بالمسؤولية و التعاطي مع الصناعة بطريقة المحاباة و غياب الرؤية الاستراتيجية و القدرة على قراءة واقع السوق و الفضائيات العربية و ميول الجمهور المستهدف و الفساد المستشري و الموغل عميقاً حتى أدّق التفاصيل هي كلها مقدّمات تأخذ مفعولها موسماً وراء موسم و ستؤدي في النهاية لنتيجتها المحتومة و هي زوال هذه الصناعة وصولاً لإنتاج مسلسل أو اثنين كحدّ أقصى.
رغم كل الدعوات التي أطلقها نقّاد و صحافيون و فنانون لإنقاذ هذه الصناعة إلا أن الآذان ترفض الإصغاء و تفضّل أن تُطرَب لطروحات و مشاريع تجاوزها الزمن و المنطق أما الأذهان فقد أحجمت، و ما تزال، عن إدراك حقيقة واضحة و بسيطة مفادها أن اللذين ساهموا بتراجع المستوى الفني و الفكري للدراما لا يمكن لهم إنقادها و أكبر دليل على ذلك تجربة الدراما المصرية، التي واكبتها خلال سنوات دراستي في معهد السينما بالقاهرة، فهذه الدراما رفضت الاستكانة لسوقها المحلي لتسويق و تصريف نتاجاتها، رغم قدرته الأكيدة على تغطية الصناعة، و استقدمت كتّاب و مخرجين جدد أنجزوا مسلسلات استطاعت فرض حضورها على كل الفضائيات العربية بلا استثناء بسبب الجودة و مواكبة التطور التكنولوجي على صعيد الصورة و (شكل) المسلسل و التطور الفني على صعيد آليات السرد أما عندنا فما يزال الجزء الأكبر من مسلسلاتنا ينتمي لعصر ما قبل سنة 2010 على الصعيد الفني و الفكري و لا يبدو أنه ثمّة نية حتى عند المنتجين اللذين يمكن المراهنة عليهم لتحسين هذه النتاجات فالكل يفضّل الركون إلى المجرّب علماً أن هذا المجرّب أودى بالنهاية إلى شبه انهيار كامل لهذه الصناعة بلغ ذروته في الموسم الحالي و الحقيقة الأكيدة أن منتجوا القطاع الخاص اللذين كان لهم الفضل قبل سنوات عديدة في إنجاح تجربة الدراما السورية و ترسيخها هم أنفسهم اللذين يدّقون المسامير الأخيرة في نعشها اليوم بسبب تخوفهم من المراهنة على نصوص و عناصر فنية قادرة على المنافسة عربياً و على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من صناعة 
.مهددة بالانهيار التام


عمرو علي
25 / 1 / 2018

الأربعاء، 19 سبتمبر 2018

تلفزيون لنا: إنجاز كبير و لكن؟




 



كان و لا يزال إطلاق فضائيات سورية جديدة مطلباً اجتماعياً و اقتصادياً في آن، خاصة و نحن على عتبة مرحلة إعادة الإعمار و استقطاب الفعاليات الإقتصادية و جذب الاستثمارات الإقليمية و العربية. في هذا السياق، يأتي تلفزيون لنا كاستجابة لإلحاح طويل من قبل العاملين بالدراما السورية لإنشاء سوق محلي قادر على شراء  المسلسلات السورية التي تحاصرها الفضائيات العربية، و سواء كان سبب هذا الحصار يعود لرداءة إنتاجاتنا من الناحية الفنية و عدم قدرتها على منافسة الدرامات العربية، أم يعود لقرار سياسي يهدف لحصار المنتجين السوريين و مقاطعتهم، فلا شك أن إطلاق تلفزيون لنا عزز الأمل لدينا جميعاً بإمكانية إنشاء فضائيات محلية تغنينا عن الحاجة للفضائيات العربية على غرار التجربة المصرية. و لكن الملفت مع بدء عرض البرامج الأولى لهذه المحطة مثل خبار و سرار و في أمل هو الفقر و ضيق الأفق في التعامل مع الشكل البصري للبرامج و للقناة عموماً، فبرنامج خبار و سرار يعتمد على مقدّم و مقدّمة يقفان قبالة الكاميرا و يقدّمان نشرتهما الفنية و كأنها نشرة أخبار بلغة عربية فصحى، و لكن بلكنة لبنانية هذه المرة، مع عرض لماتيريال يتعلق بالخبر أو الحدث و هو غالباً مسحوب من الإنترنت، دون أن يبذل معدّوا البرنامج جهداً في إجراء ريبورتاجات ميدانية عن المسلسلات التي يتم تصويرها أو لقاءات مع شخصيات  يرد الحديث عنها أو حتى إجراء مكالمات تلفونية على الهواء مع هذه الشخصيات، هذا عدا عن ثبات الكاميرا و اعتماد مخرج البرنامج على زاويتين أو ثلاث دون أن يفكر بحلول إبداعية تساهم  بتحسين الصورة و ترتقي بطريقة الإخراج ليصبح قادراً على مجاراة غيره من البرامج الشبيهة سواء التي تعرض على الفضائيات العربية أو حتى تلك التي ينجزها يوتيوبرز ليعرضونها عبر اليوتيوب! و بالتالي فإن أي المقارنة قد نجريها بين برنامجنا هذا و ما يشبهه من برامج سرعان ما ستصيبنا بالإحباط و الخيبة من عدم إمكانية إنجازنا لبرامج مبتكرة و متطورة قادرة على المنافسة. و الغريب أن الفضائية الوليدة تتبع للقطاع الخاص و بالتالي فإنها مستقلة مادية و بعيدة عن البيروقراطية و التعقيدات الإدارية التي نبرر من خلالها للفضائيات الرسمية ضعف مستواها الفني و هذا ما يجعل انتقاداتنا للفضائية الخاصة أقسى من انتقادنا للفضائيات الرسمية فلا مبررات مقنعة لتمرير و قبول هذا الضعف سوى عدم اعتماد القائمين على المحطة على كفاءات جديرة بتقديم هوية بصرية متطورة تناسب عصرنا رغم أن كل العاملين في برامج المحطة حتى الآن هم من اللبنانيين اللذين ربما ارتأى بعض مديري المحطة بأنهم أقدر على تقديم إعلام معاصر و متطور و لكننا لم نشهد ما يثبت ذلك على الشاشة حتى الآن؟
و ما نقوله عن ضعف الشكل و الهوية البصرية ينسحب أيضاً على برنامج النجمة أمل عرفة و الذي عُرِضَت حلقته الأولى ليلة أمس و استضافت الفنانة القديرة منى واصف و أبرز ملامح ذلك هو فقر الديكور و عدم وجود جمهور يتفاعل مع الأسئلة أو الضيف و قلة عدد زوايا الكاميرات و بالتالي سيطرة حالة من الركود على الحلقة و إن كان من المبكر الحكم على مضمون البرنامج من حلقته الأولى فنحن لم نعرف بعد ما إن كان مجرد دردشة خفيفة مع الضيف على الطريقة اللبنانية أم محاولة لإلقاء الضوء على قضايا جادة تهمنا و تهم التاريخ على طريقتنا، فإن ما يلفت الانتباه هو إعادة الحديث في مواضيع سبق تناولها في منابر إعلامية كثيرة كالحديث عن فيلم الرسالة و التعامل مع الممثلين الأجانب أو حتى طقوس حياة ضيفتنا اليومية و الغريب أن أحداً من معدّي البرنامج لم يكلّف نفسه عناء البحث في جوانب معتم عليها في تجربة منى واصف كالحديث عن السينما السورية مثلاً، خاصة و أنها عملت بطولة أكثر من فيلم سينمائي كذكرى ليلة حب و قتل عن طريق التسلسل  أو الحديث عن زوجها المخرج الراحل محمد شاهين و هو أغزر مخرجي السينما السورية إنتاجاً و لم يسبق لأحد أن قارب تجربته الرائدة و الغنية لا من بعيد و لا من قريب إلا لماماً، و الحقيقة أن ذلك كان أجدى من الأسئلة التي تتعلق بكيفية التعامل مع غيرة الممثلات من بعضهن و هو أمر لا يهم سوى قلة قليلة!
من المؤسف أن أي انتقاد قد نوجهه لإعلامنا المحلي صار يواجه باتهامات بوضع العصي بالعجلات أو الرغبة بإفشال التجارب الجديدة و هذا أمر تبتعد عنه هذه المقالة بعد الأرض عن السماء فسعادتنا بفضائية سورية جديدة لا تضاهيها سعادة و لكنها تبقى سعادة ناقصة ما دام المستوى الفني لا يليق بحجم آمالنا و تطلعاتنا و من المؤكد أن الوقت ما يزال متاحاً للبحث عن هوية بصرية أكثر تطوراً و جمالاً و تأثيراً.




عمرو علي
2018 / 9 / 14

من بغداد إلى القاهرة: ما لديّ من الكلمات لا معنى له أمام شارع محطم!




لم يكن وجود السينمائي العراقي حيدر الحلو في أخر أيام المدينة من تأليف و إخراج تامر السعيد سنة 2016 محض مصادفة. في 2003 انضم الحلو إلى فريق عمل فيلم غير صالح تأليف و إخراج عدي رشيد و هو حسب تسلسل الوقائع و تصنيفات النقاد أول فيلم عراقي يتم إنجازه بعد سقوط بغداد. في ذلك الوقت، حمل عدي رشيد و مدير التصوير زياد تركي و الممثل حيدر الحلو الكاميرا بعد عثورهم  في السوق السوداء على علب خام كوداك 35 مليمتر يُعتّقد أنها هُرِبَت من بين أنقاض مؤسسة السينما العراقية و شرعوا في تصوير الفيلم. لم يكن الخام صالحاً للاستخدام فالشركة كانت قد أوقفت إنتاجه و استخدامه منذ سنة 1983 و هنا وُلِدَ اسم الفيلم. بدأ التصوير دون وجود سيناريو أو حبكة فقد كان صنّاعه، الناجون، مأخوذين بضرورة توثيق اللحظة و تسجيل ما يشبه يوميات مدينة خرجت لتوّها من أتون الحرب و الحصار. خلق عدي رشيد شخصية حسن، و هي بلا شكّ معادل تام لشخصية مخرج الفيلم ذاته، فحسن مخرج سينمائي يعيش في بغداد و يطمح لتصوير فيلم تسجيلي عن مدينته الأثيرة و لكنه محاصر بالعبث و اللاجدوى. ما لديّ من الكلمات لا معنى له أمام شارع محطم؟ عبارة يقولها حسن في بداية الفيلم تكاد تلخص مجمل الهواجس التي تدور في الذهن. مدير التصوير يظهر في الفيلم و يسأل حسن: ماذا سنفعل بالألوان؟ هذا الخام غير صالح!  يجيبه حسن: هل يوجد ألوان في هذه المدينة؟ يصمت زياد بينما يواصل الفيلم رحلته و يصّور شهوداً على الحرب: شاب ينقذ جندياً عراقياً من القصف بينما لا يكفّ والده العجوز عن الاستماع إلى الراديو القديم. معتز، شاب يحلم بالمشي و الركض و لكن إصابته الجسدية الدائمة تمنعه عن ذلك. ميسون، زوجة حسن، ترغب بالعودة للتدريس لكنها تصطدم برفض زوجها خوفاً من الانفلات الأمني. فجأة، و في منتصف الفيلم، يوقف حسن التصوير. لم أعد قادراً على الاستمرار! لا يوجد في رأسي سوى الفراغ! هنا تتلاشى الحدود  بين الحقيقة و الفيلم على النحو الذي حدث في بداية الفيلم حين شاهد حسن ثلاث جنائز تعبر الزقاق دون أن يعرف ما إن كان قد شاهد الجنائز حقاً؟ أم أنه توهم ذلك؟ يتأمل حسن بغداد من شرفة غرفته المليئة بالكتب و علب الخام. يسير في الشوارع  جوار الأسلاك الشائكة و المدرعات الأمريكية أما زوجته ميسون، ملاذه الآمن و الأكثر سكوناً في خضم الصخب و القصف المتقطع، فيبدو حبّه لها أضعف من همومه كما يأتي على لسانها داخل الفيلم. نحن أبناء بغداد! إن لم نحافظ عليها بأنفسنا فمن سيحافظ عليها؟ تقول له بينما تحاول إقناعه بضرورة عودتها إلى التدريس و تحدي الظروف الأمنية. يعود حسن في النهاية إلى أنقاض مؤسسة السينما العراقية ليبحث بين الحطام و البقايا عن فيلمه الذي احترق خلال القصف الأمريكي قبل أن يكتشف أن الفيلم قد تحول إلى رماد و في هذه اللحظة تزول الحواجز من جديد بين الواقع و الخيال و بين التسجيلي و الروائي فعدي رشيد نفسه فقد فيلمه الأول نبض المدينة الذي صوره عام 2002 في هذا القصف و لم يعد قادراً على استرجاعه أبداً. يجلس حسن على حافة نافذة و يتحدث إلى الكاميرا و فريق عمل الفيلم من خلفها: أكرهكم! أنتم سبب كل ما حدث! هكذا، يختزل حسن ما يدور في وجدان العراقيين العائدين إلى العالم و الحياة بأعين مترقبة تتأمل الجحيم الذي عبر بهم. احتراق فيلم هو احتراق بلد بأكلمه! تمّت عمليات ما بعد الإنتاج في بيروت و ألمانيا بعد حصول الفيلم على منحة من مهرجان روتردام و دعم من شركة آري و كوداك و بدأت عروضه سنة 2005 بعد مرور سنتين على تصويره.
في 2009 بدأ تامر السعيد في القاهرة تصوير فيلمه أخر أيام المدينة و ينتمي تامر، و هو خريج معهد السينما 1998 إلى جماعة السينما المستقلة في مصر. عمل مع ابراهيم بطوط، أحد رواد هذه السينما، و بدأ بتصوير فيلمه مستلهماً تجربة عدي رشيد و رفاقه العراقيين في فيلمهم الأول بعد الحرب دون أن يصرّح بذلك أو يشير إليه بوضوح. يخلق تامر السعيد شخصية مخرج سينمائي، اسمه خالد، يعيش في القاهرة المحتقنة، كحال العواصم العربية في نهاية العقد الأول من القرن الحالي،  يحاول تصوير فيلماً تسجيلياً يجمع عدة شخصيات، لكنه في الآن نفسه يعيش صراعاً وجودياً من نوع آخر، هو صراعه مع المدينة التي تغلي: مظاهرات ضد الحرب الإسرائيلية على غزة. أخبار انفجارات و عمليات إرهابية في بغداد و بيروت. محاولات دائمة للبحث عن منزل للإيجار سرعان ما تبوء بالفشل. لقاءات مستمرة مع رفاقه السينمائيين: اللبناني باسم فياض و العراقي حيدر الحلو و اللذان قدما إلى القاهرة برفقة فيلمهما المشارك في مهرجانها السينمائي و لكل من هذين السينمائيين في السينما العربية المعاصرة حكاية: باسم فياض هو أحد أبرز مخرجي السينما التسجيلية في لبنان، إلى جانب عمله كمدير تصوير، و سبق و أن أنجز فيلماً تسجيلياً بعنوان بيروت – بغداد، 2003 أما حيدر الحلو فهو ممثل في غير صالح و سينمائي يعمل على مشروعه الأول، فراشة أمي، الذي لم يرَ النور بعد. تعامل تامر السعيد، أو خالد في الفيلم، مع مخرجين تمرسوا في رصد العلاقة بين السينمائي و المدينة و إن كانت علاقاتهم بمدنهم قد وصلت فيما يتضح من نقاشاتهم و مونولوجاتهم إلى طريق مسدود فباسم لن يصور بيروت كما طلب منه خالد لأنه غير قادر على رؤية الزيف الذي يعتريها و لهذا يكتفي بتصوير البحر عبر الكورنيش الطويل أما حيدر فيصور ملامحاً مشوهة من بغداد التي يحجب سماءها دخان الانفجارات و تستلقي على نهرها أشعة الشمس الكالحة ساعة الغروب.
 في مقهى الحرية بباب اللوق و على سطوح إحدى العمارات المطلة على ميدان التحرير يجتمع الأصدقاء الثلاثة القادمين من مدن عاشت أو تعيش الحرب بقسوتها و عبثها و جبروتها، أما صديقهم العراقي الرابع فهو مقيم في ألمانيا بصفة لاجئ إنساني يرفض العودة لمدينته التي تنهشها الحرب. نقاشات كثيرة لا تفضِ إلى نتيجة. ما معنى أن تستيقظ من النوم لتلقي بجثة على قارعة الطريق؟ يرصد خالد هذه النقاشات حامية الوطيس و يبدو ظاهرياً أنه غير معني بها، فهو ابن القاهرة البعيدة عن كابوس الاحتلال و شبح القتل و الانفجارات، و لكنه يحاول في العمق تلّمس معنى المدينة فهل هي مدينة حقاً؟ أم محض فكرة؟  بعينيّ عرّافة تفتش عن الكارثة قبل وقوعها يتجول خالد في وسط البلد حاملاً كاميرته ليصّور شوارعها و أناسها بكامل القلق و الغليان و الاضطراب. بعد سنتين ستقوم ثورة يناير و ستصدق نبوءة: أخر أيام المدينة! و هي ليست أخر أيام القاهرة وحدها، بل أخر أيام بغداد و بيروت و كل المدن العربية في لحظات تحول مفصلية غير مسبوقة قبض عليها تامر السعيد على طريقة عدي رشيد من قبله، بحرارة غليانها و سطوع تناقضاتها و وضوح مآلاتها، و الملفت أن أحداً من النقّاد الكثيرين اللذين كتبوا عن الفيلم لم يشر إلى ما يجمع بينه و بين غير صالح فالفيلم الأخير سيبدو لكل من شاهده مرجعاً أساسياً و وحيداً لأخر أيام المدينة و ليس وجود حيدر الحلو في كلا الفيلمين، مرّة و هو يضع جسد الجندي العراقي في دجلة لتحمله المياه إلى مدينته، و مرّة و هو يطل على ميدان التحرير و يحكي عن بغداد كمدينة يجثم فوق صدرها الموت كقدر، مجرد تأكيد أو محض اعتراف من تامر السعيد نفسه بتأثره بفيلم العراقيين الأول بعد الحرب، بل هو تواجد يذهب لأبعد من ذلك بكثير ليصير في النهاية قصيدة سينمائيين غرباء في مدن غريبة! 

عمرو علي
2018 / 8 / 28

عن التلفزيون و الكتابة الدرامية!




صدر ضمن سلسة (مسارات) عن الهيئة العامة السورية للكتاب، كتاب (التلفزيون و الكتابة الدرامية) للباحث عماد نداف و فيه يستكمل بحثاً بدأه في 1994 عبر مؤلفه الأول (الدراما التلفزيونية - من السيناريو إلى الإخراج: التجربة السورية نموذجاً) و الذي يخصّص كاتبه هنا صفحات كتابه الجديد للحديث عن الكتابة الدرامية التلفزيونية في سوريا منذ نشأتها الأولى بالتزامن مع تأسيس التلفزيون العربي السوري سنة 1960 وصولاً إلى سنة 2010 في ذروة ازدهار صناعة الدراما السورية و الحقيقة أن الجهد المبذول في هذا البحث النقدي - التوثيقي هو جزء هام من جهود نادرة و شحيحة بالأصل سعت لتناول الدراما التلفزيونية السورية بالنقد و التحليل و المراجعة فرغم ازدهار هذه الصناعة و تطورها قلما وجدنا أبحاثاً تناولتها بجدّية و اهتمام يوازي قيمتها الفنية و الاجتماعية مع وجود استثناءات قليلة في هذا الصدد أهمها (بين السينما و التلفزيون، هيثم حقي، دار الجندي 1998) و (نقد الدراما التلفزيونية، ماهر منصور، دار التكوين 2018) و بعض مقالات مجلة (فنون) و غيرها المنشور على الإنترنت.
وضع كاتبنا بحثه على سكة واضحة المعالم دون أن يستسلم لإغراء الكتابة عن مواضيع تبدو أكثر جاذبية ككواليس الممثلين أو المخرجين أو مشكلات لإنتاج و التوزيع و إن تطرق لهذه القضايا عبر إشارات بسيطة أوردها هنا أو هناك و لكنه في المحصلة كرّس الجهد كله لملاحقة الكتابة الدرامية التلفزيونية و ربطها بالسياق السياسي و الإجتماعي و توصيف علاقتها مع أنواع الكتابة الإبداعية الأخرى ككتابة التمثيليات الإذاعية و المسرح و السيناريو السينمائي و القصّة و الرواية و يصل في الجزء الأول من الكتاب و الذي يتناول السنوات الأولى لتأسيس التلفزيون لنتيجة مفادها غياب الأسس العلمية لهذا النوع من الكتابة و اعتماده على الفطرة و الهواية و على كتّاب التمثيليات الإذاعية و في مقدمتهم الراحل الكبير حكمت محسن الذي حقق مسلسله (مذكرات حرامي، 1968) نجاحاً كبيراً و على غيره مثل خالد حمدي صاحب تمثيلية (عواء الذئب، 1974) و عدنان حبال كاتب مسلسل (زقاق المايلة، 1972) و يرى الباحث أن غزارة الكتابة للتلفزيون عند الإذاعيين تعود لسببين: الأول هو لتردد الأدباء في كتابة سيناريو تلفزيوني رغم أن بعضهم كتب في البدايات أعمالاً مثل: (المنحوس منحوس، 1965) لعادل أبو شنب و (وجهاً لوجه، 1968) لعبد العزيز هلال  و (حكايا الليل، 1968) لمحمد الماغوط و سرعان ما سيرجع بعض هؤلاء الأدباء للتلفزيون بعد انتشاره و تعاظم دوره و أبرزهم عبد العزيز هلال الذي سيكتب لاحقاً (أسعد الوراق، 1975) و (الأجنحة، 1983) و هما من أشهر المسلسلات السورية، و السبب الثاني هو انكفاء السينمائيين و ترفعهم عن الكتابة للتلفزيون و هذا أمر مستمر إلى يومنا هذا مع وجود استثناءات قليلة أبرزها حسن سامي يوسف و هو روائي و كاتب سيناريو سينمائي تحول إلى الكتابة التلفزيونية في الثمانينيات، و يستند الكاتب في توثيق هذه المرحلة المبكرة لعدد من الشهادات و المقابلات المنشورة أو الشخصية مع الرواد مثل: صبّاح قباني، تيسير السعدي، خلدون المالح، علاء الدين كوكش، رياض دياربكرلي و سهيل الصغير.
يتناول الجزء الثاني الكتابة التلفزيونية في ظل فورة الإنتاج مع ظهور الفضائيات العربية و الإنتاجات المشتركة مع التلفزيون السوري و مساهمة القطاع الخاص في الإنتاج و يؤخذ على البحث هنا المرور سريعاً على هذه الحقبة رغم أهميتها و غزارة إنتاجاتها كما تحتوي الجداول و القوائم التي أوردها الكاتب بعض المغالطات مثل اعتبار بعض السباعيات و السهرات مسلسلات كاملة و نسب مسلسلات لمخرجين و كتّاب غير كتّابها و مخرجيها الحقيقيين و هذا أمر يمكن تفاديه بالرجوع إلى المواقع المختصة بأرشفة المسلسلات السورية و العربية و هي كثيرة، و يعتبر الكاتب أن الفورة الإنتاجية أدت لتحول الكتابة التلفزيونية من عمل إبداعي يرتبط بهموم و قضايا الناس إلى كتابة من أجل التوزيع و التسويق لملأ ساعات البث التي لا تنتهي و هو ما أدى بالتالي إلى الخضوع لمتطلبات السوق العربي و  يسوق أدلة على ذلك أبرزها المسلسلات البدوية التي انتعشت في أواخر الثمانينيات و بداية التسعينينات و أعمال الفانتازيا التاريخية في وقت لاحق و يصّنف الباحث في هذا الجزء الأعمال حسب أنواعها من اجتماعي إلى كوميدي و تاريخي و فانتازي و رغم الإشارة لاختلاف وظيفة الكتابة فإنه يتناول أعمالاً مثل (هجرة القلوب)، (الخشخاش)، (حي المزار)، (أمانة في أعناقكم)، (نساء صغيرات)، (الفصول الأربعة)، (رسائل الحب و الحرب) و (أهل الغرام) كأمثلة عن تطور علاقة الكتابة التلفزيونية بالقضايا السياسية و الاجتماعية و الإنسانية كما يشير لبعض تجارب الأدباء والروائيين في الكتابة خلال هذه الفترة مثل ممدوح عدوان و عبد النبي حجازي دون أن يفرد لهذه النقطة مساحة كبيرة رغم انتعاشها النسبي خلال العقدين الأخيرين سواء من خلال التأليف المباشر من قبل الروائيين أنفسهم مثل خيري الذهبي (حسيبة) و حسن سامي يوسف (الغفران) أو الاقتباس كما هو الحال في سيناريوهات مأخوذة عن روايات حنّا مينة (نهاية رجل شجاع)، نبيل سليمان (الطويبي)، ألفة الإدلبي (بسمة الحزن) و عبد الرحمن منيف (الشريد) و رغم الهنّات البسيطة التي سبقت الإشارة إليها فإن الكتاب يشكّل محطة هامة على طريق نقد و تحليل و توثيق الدراما التلفزيونية السورية و هو بلا شكّ مرجع هام و أساسي للباحثين و المهتمين بالدراما السورية التي تفتقد إلى المواكبة النقدية و التوثيقية و تعاني من إحجام النقّاد و الباحثين عن الكتابة عنها باعتبارها في نظر بعضهم صناعة 
!تجارية لا تستأهل البحث و الدراسة

عمرو علي
8 / 8 / 2018

هل بقي لصالات السينما عندنا مطرح؟



كثر الحديث قبل الحرب بفترة وجيزة عن ضرورة إحياء صناعة السينما في سوريا، خاصة بعد افتتاح مجمع سينما سيتي (سينما دمشق سابقاً) في 2009  و صالة كندي - مشروع دمر في 2011 و وعود الدولة بإلزام المجمعات التجارية (المولات)، سواء تلك التي في طور التأسيس، أو التي ستفتتح مستقبلاً بإنشاء مجمع سينمات أو دار عرض واحدة، على الأقل، في كل مركز تجاري أسوة بالدول المجاورة و ترافق ذلك مع عودة مبشرة للقطاع الخاص إلى الإنتاج و صدور قرارات لتنشيط القطاع السينمائي أهمها إلغاء قانون حصر استيراد الأفلام بمؤسسة السينما و إعفاء أصحاب الصالات القديمة من الرسوم الجمركية عند استيراد معدات العرض الحديثة و اللازمة لتطوير صالاتهم و تجدد بهذا أمل السينمائيين بإمكانية نهوض صناعة سينمائية حقيقية سبق و أن انتعشت في السبعينيات لكنها سرعان ما انهارت تماماً منذ نهاية الثمانينيات و لكن و مع اندلاع الأحداث توقف كل شيء: ألغيت مشاريع و أًجِلَت أخرى و أمسى الحديث عن صناعة السينما ضرباً من الهبل أو الجنون.
في منتصف 2014 افتتح مجمع آب تاون – مشروع دمر و الملفت أن أحداً من السادة المالكين أو المستثمرين لم يفكر بافتتاح صالة سينما (صالة واحدة على الأقل!) ضمن المجمع رغم توفر المساحة و رأس المال اللازم، و قد يبرر المعنيون ذلك بتدني نسبة الإقبال الجماهيري على السينما و في هذا جزء من الحقيقة و لكنه ليس الحقيقة كلها فسينما سيتي لا تزال تشهد إقبالاً منطقياً، أو مقبولاً في أسوأ الأحوال، كما أن سينما الشام (قبل أن تغلق منذ عشر سنوات لأعمال الصيانة!) كانت تشهد ازدحاماً شديداً على الأفلام المصرية و الأجنبية و هذه حالة يتذكرها رواد الصالة و المهتمون جيداً و يبدو بوضوح أن المشكلة تكمن في عدم إدراك أصحاب الفعاليات الإقتصادية و المستثمرين لأهمية صالات السينما سواءً لناحية جدواها المالية أو لناحية مساهمتها باستنهاض صناعة توفر فرص العمل و تحقق دورات سريعة لرؤوس الأموال.
نترقب خلال الفترة القادمة إطلاق مشاريع هي جزء من إعادة الأعمار و هذه فرصة ذهبية لإنشاء سوق سينمائي قوامه دور عرض تتوزع على كافة المحافظات بما يتناسب مع الكثافة السكانية، تشكّل بدورها قاعدة أساسية لا غنى عنها لدفع الإنتاج السينمائي و توفير بيئة مثالية تضمن استمراره و لعل أبرز هذه المشاريع و أقربها إلى التنفيذ هو ما يتم تداوله عن تجديد و توسعة و إقامة لمركز تجاري داخل فندق فورسيزنز دمشق فهل بقي عند السادة أصحاب هذا المشروع، و 
الذي ينتج بعضهم للتلفزيون، لصالات السينما مطرح؟

عمرو علي
2018 / 8 / 6

بدون قيد


                                                


قبل سنوات قليلة و مع انتشار اليوتيوب و هيمنته على مواقع التواصل بوصفه منبراً محترفاً لعرض و تسويق المنتجات البصرية، بما فيها الأعمال الدرامية، حاول بعض العاملين في الدراما السورية، خاصة أصحاب الرؤية المتجددة و المواكبة للتطور، العمل على إنجاز أعمال مخصصة للعرض عبر الإنترنت لعلّ أبرزها تجربة محطة تحت (ال_35) التي أنتجت برامجاً تنوعت بين التسجيلي و الديكو-دراما وصولاً إلى محاولة صناعة مسلسل سرعان ما توقف بعد تصوير حلقة أو حلقتين، كما أنني قمتُ خلال إقامتي بمصر في سنة 2013 بكتابة عدة حلقات من مسلسل عزمتُ على تصويره و عرضه عبر محطة (نيو سينما جروب) على يوتيوب خلال موسم رمضان في محاولة لإيجاد محطات عرض بديلة عن الفضائيات التلفزيونية قبل أن يتوقف المشروع لصعوبة إيجاد الممولين و استخراج الموافقات اللازمة للتصوير، أما اليوم فقد تجاوز صنّاع بدون قيد كل التجارب السابقة في هذا الاتجاه و نجحوا بتحويل الفكرة المغرية لمسلسل مميز و فريد من نوعه في الدراما السورية، و ربما الدراما العربية عموماً، و للمرة الأولى أتيحت للمشاهد حرية اختيار طريقة المشاهدة عبر إمكانية متابعة قصّة شخصية واحدة سيقودها مصيرها لاحقاً إلى محطة بينزين مهجورة على الحدود اللبنانية حيث ستتقاطع الشخصيات الثلاث في النهاية بين مسافر من سورية و عائد إليها، و إذا كان إنجاز تجربة جديدة لناحية النوع و طريقة العرض نقطة تُحسب لصالح المسلسل فإن ما يُحسب لصالحه، في المقام الأول، هو الجودة الفنية الملفتة في الصناعة و الاحتراف الواضح بمتابعة التفاصيل و النجاح الذي لم يرقَ له أحد من قبل في مقاربة الجغرافيا السورية و الإقناع بمكان الحدث المُفتَرض، رغم أن التصوير تمَّ في لبنان، و هذا يعود للعناية الشديدة بالديكور و الملابس و الإكسسوار وصولاً لأدق تفاصيل هذه العناصر كنوع السيارات و لوحاتها و شكل الأرصفة و ألوان الجدران، كما في قضية وفيق، بعيداً عن الاستسهال أو تجاوز التفاصيل بحجّة عدم اهتمام المشاهد بها كما حدث في بعض المسلسلات التي صُوِرَت في لبنان و رغم توهج هذه العناصر في الحكايات الثلاث إلا أنها بلغت أوجها في قضية كريم خاصة مشاهد جبهة القتال عبر اهتمام فائق بالديكور، كما في المبنى المهجور، و الإكسسوار، كما في السيارات و الرايات و انتهاءً بملابس و مكياج الشخصيات و كلّها استطاعت، بدرجة من الدرجات، تحقيق شيء من الإبهار على هذه الأصعدة عززته حركة الكاميرا و أسلوب المونتاج، (القطع القافر)، على الطريقة الأمريكية و المؤكد أنه ليس من اليسير تحقيق كل ذلك دون تلبية المنتج، أو المنتجين، لمتطلبات تحقيق مثل هكذا شرط فني متفوق و هو ما يدلّ على عقلية إنتاجية و إبداعية تحترم المشاهد و تخاطبه بلغة فنية مميزة و راقية و هذا ما افتقده جزء كبير من نتاجات الدراما السورية خلال السنوات الماضية.
على صعيد الأداء أعاد المسلسل اكتشاف أبطاله ليقدمهم من جديد و كأنهم يقفون أمام الكاميرا للمرة الأولى في بداية مشجعة و واعدة خاصة أداء عبير الحريري و ينال منصور و هذا ينسحب على ممثلي الشخصيات الثانوية مثل خالد حيدر و محمد زرزور و كذلك قدم المسلسل اكتشافاً جديداً للفنان القدير محسن عباس الذي لمع بدور الجنرال في فيلم سينمائي و يقدم هنا شخصية أب متسلط بأداء محكم و معبّرلشخصية من لحم و دم مثلها مثل بقية شخصيات بدون قيد التي تكاد، لفرط واقعيتها، تقفز من الشاشة لتسير في شوارع و أزقة سورية و لكن دون أن يهتم صنّاع الدراما و مديروا الفضائيات بنقل معاناتها و همومها إلى الشاشة لدواعٍ تسويقية و سياسية و هنا يُحسب للمسلسل، من ناحية المضمون، طرح قضايا أولتها الدراما السورية، في العموم، ظهرها لعدم "جاذبيتها" و شبه استحالة تسويقها فنقلها المسلسل إلى الشاشة بدون قيد سياسي أو اجتماعي أو تجاري و الحقيقة أنه يؤخذ على قضية وفيق، تحديداً، سرعة الإيقاع و عدم الاهتمام بلحظات التفريغ خاصة أن بطل الحكاية يتعرض للكثير من الأحداث الدرامية التي تستلزم مثل هكذا لحظات للتأمل، و تحديداً، بعد مقتل ابنه و انتحار زوجته و كان يمكن لهذه اللحظات أن تكفل جودة إخراجية أعلى و تأثير أكبر على المتفرج و لكل ما سبق يبرز بدون قيد كتجربة مُلهمة وضعت سقفاً مرتفعاً على صعيد الصنعة و المضمون لما قد يُنجَز بعده من تجارب تحاكي نجاحه في الحضور على منبر عرض طازج و جماهيري و معالجته لقضايا حساسة و مؤثرة بأدوات فنية متطورة و محكمة و برؤية تواكب تطور الدراما و الميديا عالمياً

عمرو علي
22 / 12 / 2017