الأربعاء، 28 نوفمبر 2018

الدراما العربية في مهب الريح




قرأت اليوم خبر انعقاد اجتماع طارئ يضم إداريين و أعضاء في النقابات الفنية المصرية للبحث و التداول في أزمة الدراما المصرية الأعنف و الأشد عبر تاريخها فقد انخفض عدد المسلسلات التلفزيونية المنتجة للموسم القادم 2019 إلى نحو خمسة عشر مسلسلاً فقط بينما كان العدد في الأعوام الماضية يفوق ثلاثين مسلسلاً سنوياً، و تباحث المجتمعون في الأجور الخيالية التي يتقاضاها كبار النجوم و في أسعار الإيجارات الباهظة لمواقع التصوير رغم أن عجلة الإنتاج الفني لم تتوقف يوماً نتيجة لهذه الأسباب بل كان المنتجون يواصلون عملهم و يبيعون أعمالهم و يكسبون و يشرعون بالتالي في التحضير لإنتاجات جديدة دون أن تواجههم عقبات أو مشكلات جسام.
لا أعرف السبب وراء غياب الحديث عن الاحتكار بوصفه أكبر الأزمات في صناعة الدراما المصرية اليوم و هذه أزمة ظهرت لمّا تحول بعض أصحاب و مدراء شركات الإنتاج إلى مدراء لفضائيات كبيرة تشكّل السوق الرئيسي بالنسبة للمنتج المحلي و تتحول في أحيان كثيرة إلى جهة شريكة في الإنتاج عبر شراءها لحقوق عرض المسلسل خلال رمضان و دفع سلفة تساهم في تغطية المصاريف خلال التصوير، و ما حدث في الموسم الماضي هو أن بعض الفضائيات التي اشترت أعمالاً لغاية عرضها في رمضان و تحولت إلى شريك إنتاجي، رفضت عرض المسلسلات التي اشترتها لصالح عرض المسلسلات التي أنتجها أصحاب و مدراء هذه المحطات، و بالتالي خرجت تلك الأعمال من المنافسة و رفضت إدارات القنوات السماح لمنتجيها ببيعها لفضائيات أخرى محلية أو عربية بحجّة أنها ليست ملكاً صرفاً لها فإما: أعيدوا لنا السلفة التي دفعناها.. و إما انتظروا حتى نقرر نحن عرض أعمالكم متى نشاء قبل أن تبيعوها لفضائيات أخرى غيرنا..  
لقد أدى الاحتكار في السابق إلى تدهور كبير و ملحوظ لصناعة السينما حين أصبح بعض المنتجين أصحاباً لدور العرض و راحوا يفرضون شروطهم و يتحكمون بعملية التوزيع و يستبعدون الأفلام التي قد تنافس أفلامهم في تحقيق إيرادات كبيرة عبر شباك التذاكر من مواسم الذروة و يقذفون بها إلى الصالات في المواسم و الأوقات الميتة ثم سرعان ما يسحبونها بعد انقضاء فترة قصيرة بدعوى خسارتها في الشباك و الأكيد أن الخاسر الأكبر من هذه العملية هو الشركات الصغيرة و السينما المستقلة التي تعتمد كلياً على نجاح الفيلم السابق في التحضير للفيلم اللاحق و بالتالي في استمرار دوران عجلة الإنتاج و تدفقها، و ما زالت صناعة السينما المصرية تعاني من التبعات المهولة و التداعيات الكارثية لسياسة الاحتكار حتى اليوم.

تذّكرت و أنا أقرأ عن أزمة الدراما المصرية أزمتنا المزمنة في درامانا السورية.. هذه الأزمة التي تبدو بلا حلول و بلا آفاق للحل فلا أحد من أصحاب القرار يقرأ يُكتَب في هذا الصدد بل كثيرون منهم يبدون و كأنه لا تعنيهم أزمة دراماهم بالأصل و يستمرون بالعمل وفق الآلية و الطريقة القديمة التي قادت صناعة الدراما السورية إلى فشل كبير و واقع متردي يزداد سوءً موسماً وراء موسم، و إن كان حصار الفضائيات العربية للدراما السورية منذ بداية الأزمة يشكّل سبباً كبيراً من أسباب هذا التردي فإن المستوى الفني الذي يُقدَّم يتحمل الجزء المتبقي و تقع مسؤولية هذا على كل العناصر الفاعلة و العاملة في الصناعة بدءً بالمنتجين مروراً بكتَّاب السيناريو و الممثلين و الفنيين وصولاً إلى المخرجين.. أكتب هذا بينما يحضرني المثل الشعبي القائل: إن أُغلِقَ باب.. يُفتَحُ ألف باب! و أتخيّل مدى الانفراج و الانتعاش الذي قد يصيب صناعة الدراما عندنا فيما لو استغل المنتجون آفاق و قدرة الويب سيريس (المسلسلات الرقمية المخصصة للعرض على اليوتيوب و منصات الإنترنت) في الشهرة و الانتشار و تحقيق المكاسب المادية أيضاً، حتى لو اتجه البعض إلى هذا المضمار في البداية من باب التجريب و الاختبار، فما تمرُّ به صناعة الويب سيريس الآن يشبه كثيراً بدايات الدراما السورية حين كان الكثيرون يتخوفون من التلفزيون بل و يتكبرون و يرفضون العمل له مع فارق أساسي و جوهري هو أن وسائط العرض الجديدة الآن – الكومبيوتر و الموبايل و التابليت – أصبحت بمتناول الجميع عكس أجهزة التلفزيون التي كانت في الستينينات و السبعينيات حكراً على طبقة اجتماعية معّينة و هذا يعني أن مسافة طويلة من الطريق قد قُطِعَت سلفاً و لم يتبقَ لنا سوى التحلّي بقليل من الجرأة و الحكمة و بعد النظر ثم إدراك أن المسلسل التلفزيوني بشكله الحالي يخطو سريعاً نحو الاندثار و أن كل هذه الأزمات التي تعصف بصناعة الدرامات العربية ستسّرع هذا الاندثار المرتقب فهل نجلس في بيوتنا لنندب حظنا و ننتظر؟ أم نسعى إلى فتح آفاق جديدة قد تجعل التلفزيون و الفضائيات نفسها تسعى وراءنا لتستثمر نجاحنا في مساحات بديلة أكثر تطوراً و أهمية و رحابة؟ ألم تحقق مسلسلات مثل بدون قيد و الشكّ نجاحاً جماهيرياً و فنياً و مادياً ربما يفوق بمراحل ما تحققه المسلسلات التقليدية متوسطة المستوى؟

عمرو علي 
2018 / 11 / 28

السبت، 24 نوفمبر 2018

همومي الجميلة: نظرة أخرى على المونتاج



لا يمكن لأي متابع أو مهتم أو حتى لأي مشاهد عادي للسينما السورية ألا يتوقف عند اسم المونتير و المخرج الأستاذ مروان عكاوي باعتباره قاسماً مشتركاً بين معظم الأفلام السورية، سواء أفلام مؤسسة السينما أو أفلام القطاع الخاص، فهذا الرجل هو بلا شكّ أبو المونتاج في سوريا، و هذا ليس لأنه ترأس قسم المونتاج في مؤسسة السينما لأكثر من عشر سنوات و حسب، و لا لأن العديد من فنيي المونتاج السوريين تتلمذوا على يديه وسط البكرات و بين علب الخام و في معامل التحميض، بل لأنه يشكّل حالة فريدة و خاصة في السينما السورية و العربية عموماً، و ذلك منذ أن تفتح وعيه على عالم السينما في عتمة غرفة العرض برفقة أب خاض غمار تجربة صنع فيلم بصحبة أيوب البدري و رشيد جلال قبل نحو قرن من الزمن، وصولاً إلى اليوم حيث ما يزال يعمل في المونتاج برفقة أولاده في اليونان و يسعى بجدّ و حب لإخراج فيلم جديد يعود به إلى سينماه الأولى بعد انقطاع طويل، و بين هذين الزمنين قام مروان عكاوي بتوليف أكثر من 60 فيلماً سينمائياً طويلاً كما أخرج خمسة أفلام روائية طويلة هي سرب الأبطال، عشاق، زواج على الطريقة المحلية، عندما تغيب الزوجات و إمبراطورية غوار.
قبل سبع سنوات أصدر كتابه: همومي الجميلة.. نظرة أخرى على المونتاج، منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما 2011، و يوجز في صفحاته رؤيته لفن المونتاج التي تبلورت عبر سنوات طويلة من العمل في هذا الفن – المهنة، و الملفت في الكتاب هو اعتماد مؤلفه لغة سلسة و بسيطة تنأى عن التنظير و تجافي الأسلوب التقريري رغم أنه يشير في كثير من الأحيان إلى معلومات و قواعد علمية و أكاديمية صرفة تشكّل بمجملها الركيزة الأساسية لأي منهاج تعليمي مُتبع في معاهد و مدارس السينما حول العالم مثل قواعد القطع السلس و اختلاف وظيفة المونتاج بين أنواع الفيلم المختلفة كالروائي و التسجيلي و التعليمي إلخ... و الحقيقة أن الكتاب ليس سيرة ذاتية كما قد يظن البعض، كما أنه لا يرتكز بمجمله على تجربة كاتبه الرائدة و الغنية في المونتاج بقدر ما يعرض وجهة نظره حول مفهوم المونتاج و دوره و وظيفته باعتباره المرحلة الأكثر أهمية من بين مراحل صناعة الفيلم كافة، و كل ذلك يعتمد بلا شك على تجربة مروان عكاوي نفسه و لكن دون تخصيص مساحة واسعة للحديث عن ثنايا و خبايا هذه التجربة.
يغوص المونتير- الكاتب عميقاً في مفهومي القطع و الوصل و هما حجر الأساس في المونتاج، و يسوق لنا أدلة من الحياة و الواقع حيناً، و من المراجع مثل كتاب فن الفيلم لآرنست لندجرن و آليات المونتاج السينمائي لكارل رايس حيناً أخر، حول سبب تقبلنا لمفهوم القطع و الوصل عموماً و يخلص بالنتيجة إلى كون القطع بحدّ ذاته تجربة و عملية ذهنية يمارسها العقل الإنساني بشكل متواصل طيلة اليوم تقريباً و يعتبر الأحلام واحدة من أكثر هذه التجارب شهرة: "فالصور التي نراها في الأحلام هي صور مبعثرة تتقاطع و تتواصل بين بعضها أثناء النوم بطريقة غريبة و آنية أكثر من الصور التي نراها في الواقع أثناء الصحو، و هي تشابه تقريباً العلاقات التي تنتج عن القطع السينمائي"، و في موضع آخر يشير للقواعد التي تجدر مراعاتها عند تنفيذ القطع و يضع في مقدمتها العاطفة باعتبار "أننا نتبع السيالة العاطفية التي تدفعنا لرؤية الفعل و الفاعل و النتيجة و رد الفعل حسب تسلسل منطقي" كما يحدث في الواقع تماماً، ثم يذكر القصة و الإيقاع و التتابع في الدرجة الثانية، و يتفق مع اللذين يعتبرون المشهد السينمائي معادلاً للجملة في الأدب و اللقطة السينمائية معادلاً للكلمة و يرى أن اللقطة التي لا تدفع القصة إلى الأمام بتقديم معلومة جديدة للمتفرج هي مجرد زمن فائض عن الحاجة من الأجدى التخلي عنه، و يعتقد أن الغاية من وصل لقطتين ببعضهما هي توليد معنى ثالث غير موجود في هاتين اللقطتين المنفصلتين و هذا جوهر نظرية المونتاج السوفيتية المعتمدة بالأصل على تجربة ليف كوليشوف الشهيرة، و يرى كاتبنا أن هذا المعنى الثالث المراد توصيله للمتفرج هو هدف المونتير من عملية الوصل هذه و هي في النهاية رسالة من ضمن عدة رسائل يوجهها المونتير إلى المتفرج يقدّم له من خلالها معلومة جديدة تفيد في تعميق فهمه للحدث الدرامي و تحقيق تفاعل أكبر مع القصة، و معنى هذه الرسالة قابل للتغيير عن طريق تغيير مكان القطع فكل تطويل أو تقصير لزمن اللقطة يؤدي إلى خلق معنى مختلف عند المشاهد، كما أن التنويع بين أحجام اللقطات يؤدي إلى إحداث مثل هذا التغيير من خلال كشف جانب من الحقيقة أو توليد شعور عاطفي معيّن، و الأكيد أن بعض هذه الحقائق أو الملاحظات قد تبدو معلومات أساسية أو حتى بديهية بالنسبة للدارسين و المختصين، و لكنها تكتسب أهمية إضافية في سياق هذا الكتاب كونه موجه بالأساس إلى الجمهور العريض من المهتمين و الراغبين بفهم معنى التوليف من غير أهل الاختصاص، و إذا ما نظرنا إليه من هذه الزاوية فهو يقدم بكل تأكيد مرجعاً هاماً لفهم فكرة المونتاج و تلّمس معنى هذه العملية المعقدة من الخلق و التركيب و الإبداع.
يتناول الفصل الأخير واقع و آفاق المونتاج الرقمي و يتضح خلال القراءة أنه قد تمّت كتابة هذا الجزء في فترة كانت لا تزال صناعة السينما خلالها تعتمد على طرق التصوير و العرض التلقيدية بينما كان المونتاج يتم رقمياً بواسطة الكومبيوتر بعد تحويل المواد المصورة عبر جهاز التيليسن إلى ملفات رقمية و قد اعتمدت هذه الطريقة في الخارج و في مصر أحياناً لفترة قصيرة نسبياً قبل أن تتحول صناعة السينما بشكل شبه كلي إلى الديجيتال حتى في التصوير و العرض، و هذا ما تبنأ به الكاتب منذ ذلك الوقت معتبراً أنه نتيجة طبيعية لتطور التكنولوجيا السريع الذي قد لا تتوقف حدوده عند تحول المونتاج من الطريقة التقليدية بالاعتماد على المافيولا أو طاولات المونتاج الأفقية إلى المونتاج الرقمي بما يعينه ذلك من استغناء عن جيش من التقنيين و المساعدين فحسب،  و إنما قد يتعدى التطور ذلك إلى تحويل عملية صناعة الفيلم برمتها من عمل جماعي إلى عملية فردية يقوم بها شخص واحد فقط هو صانع الفيلم رغم ما يمثلّه ذلك من تشويه لقيمة و فرادة العمل السينمائي لجهة كونه عملاً إبداعياً جماعياً تساهم بصناعته أدمغة و أفئدة حالمة و متقدة.

يفتح هذا الكتاب بوابة للولوج إلى آلية تفكير مونتير قام بتوليف أكثر الأفلام السورية شهرة و أهمية على مدى عقود طويلة من الزمن، و يفسح المجال أمامنا لمشاركته في رؤيته و أفكاره و وجهة نظره التي تمخضت عنها أفلام خالدة عبر تاريخ السينما السورية، و يكشف لنا جانباً من الأسباب التي تجعل هذا السينمائي الكبير واحداً من قلة ساهمت بتأسيس سمعة السينما في بلادنا و وضعتها بسرعة قياسية على خارطة الفن السينمائي في العالم.

عمرو علي
2018 / 11 / 25